ما زلنا هنا وما زلنا أحياء

09 اغسطس 2017
غرافيتي لـ إرنست بينيون إرنست
+ الخط -

في عام 2008 كتب محمود درويش هذه الرسالة ترحيباً بضيوف "احتفالية فلسطين للأدب". "العربي الجديد" تستعيدها في ذكرى رحيله التاسعة التي تصادف اليوم، وهي تنشر هنا لأول مرة.

أصدقاؤنا الأعزاء؛
يؤسفني ألا أتشرّف باستقبالكم. أهلاً بكم على هذه الأرض الحزينة، التي يرسم تراثها صورة أدبية أجمل من واقعها الراهن.

إن زيارتكم التضامنية الشجاعة هي أكثر من مجرّد إلقاء تحية عابرة على شعب محروم من الحرية والحياة الطبيعية، إنها تعبّر عن معنى فلسطين الحي في الضمير الإنساني الحي الذي تمثلونه. وتعبّر عن وعي الكاتب بدوره الذي لا يكتفي بالكتابة الإبداعية، ولكنه ينخرط انخراطاً مباشراً في قضايا الحرية والعدالة. فالبحث عن الحقيقة، وهو أحد واجبات الكاتب، يتخذ على هذه الأرض شكل المجابهة مع ما أحاط بتاريخ هذه الأرض المعاصر من عمليات تزييف واستحواذ، ومحاولات مسح شعبنا من ذاكرة التاريخ ومن خارطة المكان.

نحن الآن في العام الستين من عمر النكبة. هنالك من يرقصون الآن على قبورنا، ويعتبرون نكبتنا عيدهم. لكن النكبة ليست ذكرى، إنها عملية اقتلاع مستمرة، تجعل الفلسطينيين أكثر قلقاً على وجودهم، النكبة مستمرة لأن الاحتلال مستمر. واستمرار الاحتلال يعني استمرار الحرب. وهذه الحرب الدائمة التي تشنّها إسرائيل علينا ليست حرب دفاع عن وجودها، بل هي حرب على وجودنا. ليس الصراع، إذاً، صراعاً بين وجودين، كما يروّج الخطاب الإسرائيلي. فقد عرض العرب مجتمعين مشروع سلام جماعي على إسرائيل مقابل اعترافها بالوجود الفلسطيني في دولة مستقلة. لكنها رفضته، لأن منطقها يقول: "ما صار لي فهو لي. وما بقي لكم فهو لكم ولي"!

أنتم هنا، أيها الأصدقاء الأعزاء، لتشاهدوا الحقائق عارية. لقد احتفلنا أمس معاً بانتهاء نظام الأبرتهايد في جنوب أفريقيا. وها أنتم ترونه يزدهر هنا بكفاءة عالية. واحتفلنا أمس معاً بسقوط جدار برلين، وها أنتم ترونه يرتفع هنا، ويلتف كالأفعى العملاقة على أعناقنا، لا ليفصل الفلسطينيين عن الإسرائيليين، بل ليفصل الفلسطينيين عن أنفسهم وعن رؤية الأفق. ولا ليفصل التاريخ عن الأسطورة، بل ليوحدهما بمهارة عنصرية.

الحياة هنا، كما ترون، ليست بديهية بقدر ما هي معجزة يومية. الحواجز العسكرية تفصل كل شيء عن كل شيء. وكل شيء، حتى المشهد الطبيعي، يبدو مؤقتاً ومعرّضاً لأن تغيّره الجرّافات. الحياة هنا أقل من حياة، وأكثر شبهاً بالموت البطيء. ومن المفارقات الساخرة أن تصعيد القمع والحصار والقتل اليومي الروتيني وتوسيع المستوطنات يتم في سياق ما يسمى بعملية السلام الدائرة في حلقة مفرغة، وتهدد بقتل فكرة السلام في النفوس المعذبة. إن للسلام والِدين شرعيين هما: الحرية والعدالة. كما أن الاحتلال هو الأب الشرعي للعنف.

وهنا، على هذا الجزء من أرض فلسطين التاريخية، جيلان فلسطينيان على الأقل وُلدا وترعرعا في زمن الاحتلال. لم يعرفا حياة أخرى عادية. ذاكرتهم ملأى بصور الجحيم. وغدهم يبتعد عنهم. ويبدو لهم أن كل شيء خارج هذا الواقع هو الجنة، لكنهم لا يرغبون في الرحيل إلى الجنة، لأنهم مرضى بداء الأمل.

في هذا الشرط التاريخي الصعب يعيش الكاتب الفلسطيني. لا يميّزه عن مواطنيه إلا شيء واحد هو: أنه يحاول أن يلملم شظايا هذه الحياة وهذا المكان في نصوص أدبية يحاول أن تكون متماسكة. لقد قلت أكثر من مرة: ما أصعب أن يكون المرء فلسطينياً: وما أصعب أن يكون الفلسطيني كاتباً أو شاعراً! عليه أن يكون صادقاً في التعبير عن الواقع من جهة، وعليه أن يكون مخلصاً لمهنته الأدبية من جهة ثانية.

في منطقة هذا التوتر بين "حالة الطوارىء" الطويلة وبين مخيلته الأدبية تتحرك لغة الشاعر. عليه أن يقاوم الاحتلال بالكلمة، وعليه أيضاً أن يقاوم ما يصيب الكلمة من خطر العادي والتكرار. فكيف يحقق حريته الأدبية في ظروف عبودية؟ وكيف يحافظ على أدبية الأدب في زمن الوحشية؟

الأسئلة صعبة، ولكن لكل شاعر أو كاتب طريقة فردية خاصة في التعبير عن نفسه وواقعه، فإن الشرط التاريخي الواحد لا ينتج نصاً واحداً متشابهاً، لأن الذوات الكاتبة متعددة ومتباينة. لذلك، من الضروري أن لا نضع أدب الفلسطيني في صورة نمطية جاهزة.

ليس الفلسطيني شعاراً ولا مهنة. إنه كائن بشري معذب، له أسئلة يومية وطنية ووجودية، له قصة حب، وتأمل في زهرة، ونافذة مفتوحة على المجهول، وله خوف ميتافيزيقي، وعالم داخلي غير قابل للاحتلال.

إن الأدب الذي يولد من واقع محدّد قادر على خلق واقع متعال عن ذلك الواقع. واقع متخيّل بديل. لا بحثاً عن أسطورة السعادة وهرباً من تاريخ وحشي، بل لجعل التاريخ أقل أسطورية، ولوضع الأسطورة في حيّزها المجازي، ولنتحوّل من ضحايا للتاريخ إلى مشاركين في أنسنة التاريخ.

شكراً لكم، أيها الأصدقاء الأعزاء، على تضامنكم النبيل معنا. شكراً لكم على مبادرتكم الشجاعة لفك الحصار المعنوي المضروب علينا. وشكراً لكم لأنكم تقاومون الدعوة للرقص على قبورنا. ما زلنا هنا وما زلنا أحياء.

المساهمون