ما بُدل تبديلاً

08 فبراير 2016
لوحة للفنان الألماني أوغست ماكه (Getty)
+ الخط -
في واحد من أهم الكتب النقدية العربية : "تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث"، تكتب الناقدة العراقية، فاطمة المحسن، غبّ تحليلها تأثير الشعراء العراقيين في العقود الأولى من القرن العشرين، وبشكل خاص الشاعرين؛ جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي :"المرجح أن العراقيين قد بدّلوا منطق الشعر ذاته، فلم يعد أدب إنشاء وحسب، كما استبدلوا موقف الشاعر، فتحول إلى مجادلٍ في اللاهوت والعلم والاجتماع وسواها من المواضيع العقلية". وهذا دقيق وصحيح، وينطبق بسلاسة على الزهاوي والرصافي، إلا أن "فكرة التبديل" التي ابتكرتها المحسن، هي في الظنّ من أقوى الأفكار التي يُمكن عبرها تحليل مساهمة العراقيين الغزيرة والمتميزة في الثقافة العربية الحديثة، وبشكل خاص في خمسة مجالات : الشعر الحديث، التحقيق العلمي للكتب التراثية، العمارة والعمران، التشكيل والتصوير، والنحت والنصب. ولو أراد المرء عدّ أسماء عراقية في المجالات الآنفة، لفاضت عن حيّز المقال ها هنا.

بيد أن مدخلًا مناسبًا هو الشعر، لتقديم ضيفة هذا العدد من ملحق الثقافة. ذلك لأنه كما لا يخفى، ومن دون أن يرف الجفن يمكن القول، إن التغاضي عن المساهمة العراقية في الشعر الحديث، هو المستحيل الرابع، من بعد الثلاثة الشهيرة: الغول والعنقاء والخل الوفي.

اقرأ أيضًا: عمران بغداد

والمساهمة العراقية تعني بدر شاكر لسياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي. وبقطع النظر عن نسبة المساهمة ومدى نجاحها وديمومة أثرها وأصالتها، إلا أن الصنيع العراقي شعرًا في النصف الثاني من القرن العشرين، "بدّل" ثانية، وبشكل لا عودة عنه الشعر العربي الحديث؛ مبنى ومعنى. تبديل قوي أصيل، حدّ أن الشاعر محمود درويش كتب في قصيدته للسياب: "إن الشعَر يُولدُ في العراق/ فكُنْ عراقياً لتصبح شاعراً يا صاحبي". كذا، طُبعت أرض السواد، بالشعر، بسبب صلابة المساهمة العراقية في الشعر الحديث. وكان أن غطّى الرنين البلاغي الهش، على السرد الخجول. فلم يكن الروائيون العراقييون، يتمتعون بتلك الرتبة الأدنى إلى جناح الفراشة، التي تمتّع الشعراء بها خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ومن الصحيح والدقيق أن الروائيين العراقيين كثرٌ في تلك الفترة، من بينهم على سبيل المثال، الرائد غائب طعمة فرمان والأنيق فؤاد التكرلي. كما أنه من الصحيح والدقيق، أن العراق، أرض ألف ليلة وليلة، اجتذب إلى دائرة سحره التي لا راد لها، أديبين عربيين اثنين - على الأقل - جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، وكان لصنيعهما السردي عراقيًا، دور الدعامة الرقيقة الباهرة، في بناءٍ ذي ألف مدماك ومدماك من الثقافة العراقية المميزة.

وبعد،
في عام 2003، غزا الأميركيون العراق واحتلوه، وهذا "ألطف" وصف يُمكن أن يقال عن ذلك. انداح المكان، الذي عانى قبل ذاك التاريخ، معاناةً كبرى، كان من إحدى صورها "الثقافية"، هجرة المثقفين العراقيين إلى المنافي. هجرة يُمكن ربما التأريخ لـ "زخمها" الأوّل في سبيعينيات القرن المنصرم، وزخمها الثاني في العقد التاسع من القرن نفسه، وصولًا إلى الألفية الثانية، التي شهدت جريمة العصر، متمثلةً في ما اقترفه الأميركيون في بلاد الرافدين، وكيف تركوها إلى اليوم، مشظّاة لا تكفّ عن التكسّر والانكسار، لا تمل من الانشطار، وغير قادرة على لملمة أشلائها المتكاثرة إلى ما لا نهاية، والأنكى أنها عازفة، عن قصد، عن النظر في ماضيها، كأنّه لم يكن.

اقرأ أيضًا: كوابيس العراق الملونة

حمل المثقفون العراقيون "الذاكرة" إلى منافٍ كثيرة، عرفتهم كما أسلف القول بدءًا من السبعينيات الماضية، لكن وقع ضربات الصواريخ "الذكية" على البشر والحجر، وذاك القصف، الذي شبّهه أحد جنود جيش الغزو العراقي - ولعله الأكثر بلادة - بـ شجرة الميلاد، قدحا على ما يبدو زناد السرد العراقي. كذا بدأت أسماء الروائيين العراقيين بالظهور في مشهد الثقافة العربية. ويمكن، من دون أن يرف الجفن، القول، إن الرواية العراقية وُلدت ناضجة باهرة. وكيف لا؟ وهي سليلة التاريخ العريق؟

المقام هنا لمديح السرد العراقي، والتحديق مليًا في ذاك "التبديل" : كيف بدّل العراقيون غلالاتهم الثقافية الآسرة، من الشعر الذي طبع القرن العشرين برمته، إلى الرواية المكينة؟
ولئن كان بدء المقال يميل صوب النقد وصوب فاطمة المحسن و"فكرة التبديل"، إلا أن ختامه يميل صوب ضيفة هذا العدد، الروائية العراقية إنعام كجه جي، ذات السرد المتين الذي وُلد بعد عام 2003، وُلد ناضجًا وذكيًا وجميلًا. وبين البدء والختام، حبّ لأرض السواد وأهلها، حبّ "ما بُدل تبديلا".
المساهمون