ما بين الحلم والحقيقة

24 يناير 2019
+ الخط -
لكل منا حكايته في خوض التجارب التي تجعل منه ناضجا، ودائماً هناك المرة الأولى من كل شيء. اليوم كانت المرة الأولى، إنها تجربتي المهنية الأولى التي انجرفت نحوها وأنا غير مدركة للمجهول الذي ينتظرني، اندفعت كالنهر المنحدر من أعالي الجبال، مقتلعا كل ما يقف بوجه مبتغاه وهو يرجو الوصول إلى الضفة الثانية.
منذ ليلة البارحة، لم يهدأ لي جفن، أمضيت ليلتي متقلبة حائرة في فراشي، عيناي لا تجرؤان على الرقود وقلبي ينتفض بضرباته المتعالية، وأصوات قطرات المطر المتساقطة على النافذة الملازمة لسريري تزيد من توتري وصحوتي معا.
مضى ساعتان بعد منتصف الليل، وأنا على هذه الحال، لأستسلم بعدها لأحلام اليقظة، وأنا مدركة لما يدور من أحداث في حلمي تارة، وصحوتي تارة أخرى، لم يكن حلماً بل كان سيناريو من تمثيلي وتصويري لما سوف يجري معي في الصباح.
سافرت بجسدي وروحي بعيداً إلى عالم البرزخ، إذ حضرت أحداث يومي في حلمي، ليوقظني صوت آذان الفجر وينجيني من ذلك الحلم وأثقاله وأعبائه ومتاهاته التي لم أستدل على كيفية الخروج منها، كان مكاناً مزدحما يعج بالرجال والشباب، أتخبّط ماشية في سراديب وممرات لا أعرفها، وأحيانا أخرى أرى أطفالاً يقبلون على الخروج من مدارسهم، أسير في شوارع غريبة وأماكن ما كانت قط مألوفة على ذاكرتي، ولم أدركها يوماً في واقعي، أنتفض واقفة متوجهة إلى قبلتي وبساط صلاتي، أنهي فرضي وأطلق العنان للساني للبوح عن ما يجول في خاطري، مناجية وراجية ربي الخير في أمري، وأعود إلى فراشي البارد، وتعود تلك الأفكار لمراودتي، وأعيد ما كنت عليه في ساعاتي القليلة الماضية من مشاعر متفاوتة من توتر وخوف وذعر حتى بزوغ أولى خيوط الشمس المصحوبة بلفحات الهواء الشتوية الباردة.
أهيئ نفسي للرحيل، معدّة أسئلتي التي سأطرحها في المؤتمر الذي كان سيعقد، منطلقة في طريقي، مبحرة بأفكاري إلى حيث لا أدري، أصل المكان المنشود، وتبدأ ذاكرتي بتخزين تلك الوجوه الغريبة التي أراها للوهلة الأولى، أتراجع قليلاً ثم أقبل خطوة للأمام، يوقفني أحدهم، وهو ما بين ربيع وخريف العمر، يعلو وجهه منظار سميك فارع الطول ذو همة جيدة: "من أنت؟"، أجيب: "صحفية".
يتابع كلامه أمراً: "تحجبي!".
أندهش وأتحسس رأسي، معتقدة أني بلا وشاح يغطيني، أنظر إلى نفسي ومعطفي الذي يكاد يلامس الأرض، ولكنني لم أجادله، يتنحى لي جانباً مفسحاً لي الطريق من أجل العبور قائلاً: "سوف يرجعونك قبل الدخول".
لا أكترث وأمضي في طريق محفوف بأشجار السرو المنبثقة العالية، يتراءى أمامي بعض الملثمين المسلحين المنتشرين في أرجاء المكان ومدنيين ملتحين بذقون كثة وآخرون حليقين، أجتازهم جميعاً إلى البوابة الرئيسية، باحثة عن أنثى تؤنس وحشتي وخوفي هذا، ولكنني لا أجد سوى صوت ذكوري يناديني من خلفي، أقف متلفتة لأسمع صوته: "من أنت وما الذي أتى بك إلى هنا؟ ليس من المسموح تواجدك ضمن هذا الحشد؟".
أستجمع قواي وأجيب بصوت واثق تعلوه نبرة الثبات والثقة: "أنا صحفية أتيت لتغطية المؤتمر". يأمرني بالانتظار بعض الشيء ريثما يستشير رئيسه بالسماح لي بالدخول، ويعود مشيرا لي برأسه لأتبعه إلى أحد الممرات التي حلمت بها قبيل ساعات من قدومي. يقول لي أن أجلس هنا، ويشير إلى باب نصف موارب على يميني ويكمل: "باستطاعتك التقاط بعض الصور من هنا لا تقتربي من أحد، ولا تدعي أحد يراك إلى حين انتهاء المؤتمر وبعدها تحصلين على مقابلاتك".
أمام هذا المنظر المرعب لا يسعني إلا أن أرضخ للأمر، وأبدأ عملي بالتقاط ما تيسر لي من الصور وتسجيل بعض الأصوات المنبعثة من داخل القاعة المختلطة بصوت ضجيج الحضور. إلا أن ازدياد التزاحم ووقوف بعض المصورين أمامي حجبت عني الرؤيا، لم أستسلم وطلبت من أحد الحضور أن يأخذ لي ما تبقى من اللقطات والتسجيلات، ثم أعود إلى ذلك الكرسي الملازم للباب، يأتيني إحدى الشبان بعلبة عصير، ألتقطها دون أن أنبس بكلمة واحدة، أضعها جانباً وأستمع لما يدور حولي، تبدأ المزاحمات والمضايقات من البعض بنظراتهم وهمساتهم ويتصاعد الجو الموتور، أقتطع هذه الأفكار والهمسات والنظرات، سائلة كم تبقى من الوقت للانتهاء، يجيب أحد المنسقين الذي لا يرغب بوجودي ويتمنى رحيلي بأي شكل: "ساعة ماذا بقي عندك؟"، فأجيبه: "مقابلة فقط"، يأتيني بأحد الحضور ويقول لي: "أنهي مقابلتك واذهبي..".
أطرح أسئلتي وأنهي حديثي الصحفي، وأخرج مسرعة إلى حريتي المعهودة المنتظرة خارجاً، محملة بأفكار عدة كالسجين الذي أمضى محكوميته في ظلمة الزنزانة المغلقة أو غرف العمليات المعتمة ثم عاد إلى مزاولة حياته الطبيعية، وهو يتذكر أفكاره السوداوية.
4204108B-96F3-4063-87CE-8A9B161094FA
4204108B-96F3-4063-87CE-8A9B161094FA
سيلا الوافي (سورية)
سيلا الوافي (سورية)