ما بعد مقتل سليماني

05 يناير 2020
+ الخط -
وصلت الأزمة الأميركية الإيرانية إلى ذروة تصعيدٍ غير مسبوقة مع العملية العسكرية النوعية التي قامت بها طائرة أميركية بدون طيار قرب مطار بغداد، وقتل فيها قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، ونائب قائد مليشيات الحشد الشعبي في العراق، أبو مهدي المهندس، الذي يوصف بأنه القائد الفعلي لهذه المليشيات، وأوفى رجل لنظام الملالي الإيراني في العراق، كما قتل في العملية قادة آخرون في مليشيات الحشد الطائفي العراقي.
هذه العملية العسكرية هي أخطر وأقوى عملية أميركية ضد النظام الإيراني وأذرعه المليشياوية، كونها استهدفت ما هو أبعد من سليماني، لتطاول مشروع النفوذ الإيراني في المنطقة، بوصفه المسؤول الأول عن مدّ أذرع طهران المليشياوية الطويلة في المنطقة، ورجل المهمات الخارجية للنظام الإيراني، والمقرّب من كبير الملالي ووليهم الفقيه علي خامنئي وصاحب سرّه. وقد تغنى به متشدّدو ملالي طهران كثيراً إلى درجة وصفه بـ"منسق العواصم الأربع"، ويقصدون بها بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
ولم يخف الأميركان أن العملية جاءت بأمر من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حيث أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، أنها جاءت "بتوجيهاتٍ" منه، بوصفها عملاً حاسماً "لحماية الأفراد الأميركيين في الخارج"، وفور انتهاء عملية حرق بوابات السفارة في بغداد ومحاصرتها
 من مليشيات الحشد الشعبي، ولكن الحقيقة تشي بأنها جاءت ردّاً على الأقاويل التي صوّرت ترامب رئيساً أنعزالياً، ويريد سحب قواته من العراق والمنطقة. وما يؤكد سبق الإصرار الإميركي على تأكيد الوجود الأميركي واستعراض القوة أن العملية جاءت في أعقاب تحذيرٍ من وزير الدفاع الأميركي، مارك إسبر، لإيران، أعلن فيه أن الجيش الأميركي سيشنّ ضربات "وقائية" ضد مليشيات النظام الإيراني في كل من العراق وسورية، إذا وجدت إشاراتٍ تدل على أنها تخطط لمزيد من الهجمات على القواعد والعسكريين الأميركيين في المنطقة.
ويبدو أن محاولات النظام الإيراني التحرّش بالولايات المتحدة، عبر هجمات صاروخية، قامت بها مليشيات حزب الله العراقي، على قاعدةٍ تأوي عسكريين أميركيين في كركوك، وأفضت إلى مقتل متعاقد أميركي، قد أدّت إلى نتائج لم يتوقعها ساسة طهران، لأنهم لم يفهموا الرسالة من تنفيذ القوات الأميركية ضرباتٍ عسكرية على مواقع مليشياتهم في العراق وسورية، بل أوعزوا إلى المليشيات الطائفية في العراق بالتحرّك ومحاصرة السفارة الأميركية، في رد فعل على الهجمات الأميركية، معوّلين على عدم رد الإدارة الأميركية، وأن تمرّ العملية من دون أي ردّ من الولايات المتحدة، مثلما مرّت عملية إسقاط الطائرة الأميركية بدون طيار عند مضيق هرمز في يونيو/ حزيران الماضي.
ولعل أهم ما تضمنته الرسالة الأميركية من عملية قتل سليماني، وقبلها عملية قصف مواقع مليشيات حزب الله العراقي، أن قواعد اللعبة ما بين الولايات المتحدة والنظام الإيراني تغيرت. ووفقها تغيرت قواعد الاشتباك، بما يعني أن التحرّشات والاستفزازات التي سيقوم بها نظام الملالي الإيراني، سواء عبر أذرعه المليشياوية الطائفية أم بشكل مباشر، ستواجه برد أميركي فوري، لذلك فإن ساسة إيران سيحسبون ألف حساب لما بعد مقتل سليماني. أي في حال فكّروا في الرد على عملية قتله، خصوصا وأنهم يواجهون أوضاعاً صعبة، سواء في الداخل الإيراني أم في الخارج، حيث تهدّد ثورتا العراق ولبنان نظامي المحاصصة الطائفية في البلدين، اللذين ترعاهما وتصرف عليهما طهران، وبالتالي فإن تحولاً كبيراً تحمله الهجمات الأميركية في سورية والعراق، وبما يشكل منعطفاً خطيراً، خصوصاً إذا استتبعت ردّاً إيرانياً، سواء في العراق أم في لبنان بواسطة مليشيات حزب الله أم في قطاع غزة، بواسطة حركتي الجهاد الإسلامي وحماس.
غير أن تتبع تغريدات الرئيس ترامب وسائر المسؤولين الأميركيين وتصريحاتهم، وكذلك تصريحات المسؤولين الإيرانيين، يظهر أنهم لا يرغبون في نشوب حربٍ مفتوحة بين النظام الإيراني والولايات المتحدة، على الرغم من محاولات متشدّدين في نظام الملالي تصدير أزمة نظامهم الداخلية إلى الخارج، ولذلك أي ردّ عسكري إيرني محتمل سيكون محدوداً جداً وغير مؤثر، وقد يتخذ من أحد البلدان العربية ساحةً له. ومن غير المتوقع أن يمتد ليشمل إسرائيل، لأن ذلك سيوسع المواجهة، ويأخذها إلى آفاق أخرى غير متوقعة.
وإن كانت الحروب بين الدول تقاس بمدى كلفتها ومنفعتها لها، أي وفق العلاقة ما بين ثمنها 
وفائدتها، فإن تكلفة أي حرب مقبلة بين الولايات المتحدة والنظام الإيراني وثمنها سيكونان كبيرين جداً، وخصوصا بالنسبة للشعب الإيراني. وستكون الفائدة التي ستجنى منها ضئيلة أميركياً إن لم تكن محدودة وسريعة؛ لأنها ستفضي إلى سلسلة من الأزمات في المنطقة، لأن آثارها وارتداداتها وإرهاصاتها لن تنحصر بين الولايات المتحدة وإيران، بل ستفيض على العراق ولبنان اللذين يشهدان ثورة مستمرة ضد التركيبة السياسية الطائفية فيهما، والمحكومين بظروفٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ مأزومة ودقيقة.
وعلى الرغم من ارتفاع حدّة الأصوات المنادية بالانتقام في إيران، يعي أصحاب هذه الأصوات، بدءاً من المرشد علي خامنئي، يعون جيداً إنهم لم يردّوا على الضربات العسكرية الإسرائيلية المتكرّرة على مواقعهم العسكرية في سورية، ولذلك مرجّح أن لا يوسّع النظام الإيراني دائرة المناوشات المحدودة للحرب الجارية مع أميركا على أرض العراق. ولن يغامر حزب الله بإشعال معركةٍ مع إسرائيل انتقاماً لمقتل سليماني، كذلك لن يفعل قادة جركتي الجهاد الإسلامي وحماس في غزة، إلا إذا ارتكب نظام الملالي حماقة سيندم عليها كثيراً، ووقتها قد لا ينفعه الندم.
5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".