ما بعد سقوط الكومبين (9)

18 ديسمبر 2019
+ الخط -
ظن عبد الحميد الأسواني أنني أجامله، حين قلت في اتصال جمعنا بعد عشرين سنة من أول لقاء لنا في تلك السينما، إنه كان واحداً من أساتذتي في الحياة، وأنني تعلمت منه أكثر بكثير من أناس كانوا يتقاضون مرتبات من أجل تعليمي، أو كانوا يظنون أنهم يعلمونني لوجه الله ودون مرتبات.

تطلب الأمر عشرين سنة لكي أقر لعبد الحميد بتلك الحقيقة، ليس فقط لأن الظروف كانت قد باعدتنا فجأة، كما جمعتنا فجأة، ولكن لأن ذلك النوع من الحقائق يتطلب سنوات طويلة لإدراكه، خصوصاً حين يتعود عقلك على الانشغال أكثر بالدروس التي يبدو بوضوح أنها دروس، بعكس دروس عبد الحميد التي لم يكن يبدو عليها أنها كذلك. يعني حين اصطحبني معه ذات مرة إلى "سوق التلات" في منطقة المنيب، التي لم تكن بعيدة عنا، وكنت أركب كل يوم أتوبيسات ينتهي خط سيرها فيها، لكني لم أكن قد ذهبت إليها من قبل، لم يكن عبد الحميد يقصد من ذلك مثلاً أن يعلمني أهمية شكر ما أنا فيه من نعمة، حين أرى أن آلاف الفقراء الذين يترددون على السوق يحلمون بما أراه أنا عذاباً وضنكاً، بل كان يرغب ببساطة أن أساعده في حمل كرتونة تمتلئ بالأطباق وأدوات المطبخ، اشتراها برخص التراب بناءً على طلب أحد أقاربه، ثم قضى هو وأخاه وابن عمه ليلة كاملة في تلميعها وتزويقها قبل إرسالها إلى البلد، وقد بدت كأنها مشتراة من عمر أفندي أو صيدناوي، وكانا لا يزالان أمَلَة في ذلك الزمان.

لم يكن التردد على الأسواق الشعبية جديداً علي، فبيتنا في الإسكندرية يقع على بعد خطوات من أحد أكبر أسواقها الشعبية، لكن ما رأيته في سوق التلات بالمنيب، في تلك الزيارة وفي زيارات تالية، كان مختلفاً عما شاهدته من قبل في أي سوق شعبي في القاهرة والإسكندرية، كان يشبه زيارة بالحركة البطيئة لكابوس خانق، كل تفاصيله تنضح بالبؤس، تفاصيل أقبح ما أذكر منها تلك النصبة الخشبية العملاقة التي اضطر عبد الحليم أن يدفعني بعيداً عنها، بعد أن طالت وقفتي المذهولة وأنا أنظر إلى الأكوام المرمية عليها من رؤوس وأرجل الفراخ، يحفها الذباب من كل اتجاه، وتفوح منها رائحة توشك أن تكون رائحة عفن، ولم يكن ما على النصبة هو الذي أذهلني، بقدر ما أذهلتني الجدية الشديدة التي يتزاحم بها العشرات من الرجال والنساء على محتويات النصبة التعيسة، يغرفون منها ويملأون أكياساً بلاستيكية سوداء، يدفعون بها إلى شاب يقف على النصبة إلى جوار ميزان معلق على عمود، ومع تمايل كفتي الميزان، يتمايل نصفه الأعلى راقصاً على أنغام أغنيات صاخبة، في حين تقف قدماه اللتين يغطيهما "بوت" أسود مهترئ ثابتتين، لكي لا ترتطما ببواقي الفراخ الملقّحة حوله، مرسلاً بين حين وآخر صيحة تحذير إلى زبون نسي نفسه، فأخذ "يُنقّي" مما أمامه، فإن "بَمبَك" الزبون معه وطلب منه أن يتركه في حاله، أسمعه الشاب من المنقّي مألسة وتريقة، طالباً منه أن يترك النصبة لأنها لا تليق بمقامه الرفيع، مشيراً إلى ركن تتجاور فيه محلات الفرارجية التي تبيع الصدور والأوراك والأجنحة والكبد والأوانص وغيرها مما لا يمكن أن تجده على النصبة اللعينة.


قال لي عبد الحميد ساخراً من ذهولي المفاجئ: "يا عم حيّرتني معاك.. هو انت ابن ناس جار عليك الزمن.. ولا انت داس عليك القطر زيينا بس بتستعبط؟"، وحين غمغمت محاولاً شرح أسباب ذهولي، وحاكياً عن شعراوي الزِناوي الذي كان يحب أن يصنع لي شوربة الفراخ من رؤوسها وأرجلها ورقابها، أو ما كان يطلق عليه ساخراً "فواكه الفراخ"، ومع ذلك فإن رؤية رجل الفرخة أو رأسها وهي مسلوقة في طبق شوربة، يختلف كثيراً عن رؤيتها في ذلك المشهد الكابوسي، حيث يتعامل الناس معها بوصفها "لقيّة" تستحق التدافع والتأتيت. استمع عبد الحميد إلى ما قلته معلقاً بابتسامته الساخرة اللطيفة، ثم قال لي: " طيب، ولما أودّيك دلوقتي عند نصبتين تلاتة بيبيعوا مصارين الفراخ، هتعمل إيه لما تشوف الناس وهي واقفة عليهم بالضرب؟"، وبالطبع كنت أعقل من أن أتعامل مع ما قاله بوصفه تحدياً، بل تعاملت معه بوصفه تحذيراً، لأكمل التجوال في السوق التعيس وأنا أدرب نفسي على كتم انفعالاتي إزاء كل ما أمر به.

قال عبد الحميد إنه يستغرب تأففي مما رأيته على النصبة، بينما آكل ما لا يقل عنه قرفاً كل يوم، كان قد لامني من قبل لأنني أضيع فلوسي على أكل الشارع، بدلاً من أن أقوم مثله بالطبخ اليومي، توفيراً لأموالي وحفظاً لصحتي، التي ستدمرها الطعمية المقلية بزيت العربيات والفراخ المحقونة بالهرمونات، وحين ذكرته بأن صداقتنا ولدت في الأساس على أشلاء نصف فرخة مشوية، كان يقول إنه لم يرض أن يكسفني وقتها، ليكون بينا عيش وملح، كما أن فراخ شارع طلعت حرب، لا يمكن أن تقارن بفراخ شارع المحطة، لا من حيث السعر ولا من حيث الطعم ولا من حيث نوعية الهرمونات التي تُحقن بها.

كانت ميزانيتي قد تحسنت كثيراً عن أيام الضنك التي عشتها في شقة أم ميمي وطليقها شعراوي الزِناوي، لكنها لم تكن تسمح لي بأكل الفراخ كل يوم، ولذلك كنت آكلها ثلاث مرات في الأسبوع، مقسماً بقية أيام الأسبوع بين محل كشري الونش ومحل مكرونة الإنسجام، وقد كان المحلان قريبين جداً من عمارة الحاجّة أم عادل، وكان لهما شنّة ورنّة في أنحاء الجيزة، ومع ذلك لم يكن عبد الحميد يحبهما، وكان يلومني على التردد المنتظم عليهما، ولا يكف عن تعداد آثارهما على صحتي، وكانت تلك أول مرة أدرك فيها هوسه بالحديث عن الصحة وما يلحقه بها الفقر من أضرار إضافية، غير أضرار تلوث الهواء والماء الذي يدفع الفقير والغني ثمنه في بلادنا، وقد كان من أوائل من رأيتهم ينشغلون بهذه القضية على المستوى الشخصي، ويحدث من حوله عنها بانتظام، مهما ملوا من كلامه.

لم يكن عبد الحميد نحيفاً كأخيه حسن وابن عمه عبد الرحيم، الذين كانا مطابقين لمواصفات الصورة النمطية للأسواني النحيف إلى حد الهزال، بفعل الفرهدة من الحر والعمل الشاق في زراعة الأرض، بل كان ممتلئاً إلى حد يقارب اللظلظة، لكنه كان مع ذلك رشيق الحركة، وكان حين يراني كل يوم وأنا أقاوم الانهيار على مدخل السلم بعد صعودي لدرجاته اللعينة، يقول لي مُغيظاً وهو يربت على كرشه المتوسط: "ده الفرق بين تُخن الأكل النزيه وتُخن الرمرمة"، وكان يرى أنني لو واصلت التعامل مع الكشري والمكرونة بوصفها وجبة تؤكل لوحدها، لتحول طلوعي السلالم من مهمة شاقة إلى مهمة مستحيلة، لأنني سأصبح قريباً بحجم المعلم صاحب كشري الونش، والذي كان شديد الضخامة، حتى أن البعض تصور أن المحل حمل اسم "الونش" نسبة إلى ضخامة صاحبه، وكان الداخل من باب المحل الضيق يجد صعوبة في تجاوز المعلم، لأنه كان يجلس أمام "بنك" خشبي اختار أن يضعه في ركن يجاور مدخل المحل، ليحكم سيطرته على الداخلين والخارجين من الزبائن، الذين كان يصر على قيامهم بدفع ثمن ما يطلبونه من "كمالة" أو "حلو" مقدماً قبل الأكل، وهي غتاتة كان يغفرها له الطعم الفريد لكشري المحل الذي لم أجد له مثيلاً في كل أنحاء القاهرة والجيزة، لكنني وجدت ما هو أفضل وأجمل في الإسكندرية، وهو أمر أترك تفصيله للمتخصصين في الأدب الغذائي المقارن.

فشل عبد الحميد في إقناعي بالانتظام في الطبخ، الذي عرض تعليمي فنونه في وقت قياسي، ثم فشل في إقناعي بمشاركته غداءه كل يوم، بعد أن رفض عرضي عليه أن يأخذ مقابلاً مادياً لذلك، واعتبر ما قلته إهانة سيغفرها لي بسبب حداثة سني وجهلي بعادات الصعيد وتقاليده، لكنه بعد أن قبل اعتذاري، قال لي في لحظة صفا إنه سيكسب في ثواباً ويدلني على مطعم قريب آكل فيه طبيخاً معقولاً، بدل القرف الذي آكله كل يوم، واصطحبني إلى مطعم صغير في شارع الصناديلي، اختار صاحبه اسماً درامياً هو (محسوب الحسين)، كان طاقم العمل في المطعم مكوناً من شخص وحيد، ستنفر منه في البدء حين ترى سحنته الكِشرة، لكنك ستنساها حين تذوق طعم طبيخه الذي كان يتغير من يوم لآخر، حيث يقدم كل يوم صنفي خضار مختلفين، إلى جوار الفراخ المحمرة والرز بالشعرية والشوربة والسلطة البلدي والطرشي، وكان في يومي الخميس والجمعة يستبدل الفراخ المحمرة باللحمة المحمرة، ويقدم الرز باللبن والمهلبية كدلع لزبائن المطعم.

كان ذلك الطباخ المتجهم يبدع في طهي كل أطباق الخضار التي تخطر على بالك، باستثناء الملوخية والبامية، فقد كانا يخرجان من بين يديه في غاية العك، ومع ذلك لم يعدما زبائن منتظمين، ممن يطبطب أكل الطبيخ الصابح على أرواحهم، وقد اعترف لي الرجل حين صرنا أصدقاء، أنه فشل في إقناع زبائنه المنتظمين بأن يقوموا بإعفائه من طبخ الملوخية والبامية، الذين اختص الله الستات بسرهما على حد تعبيره، لكنه تأثر بمنطق فكهاني حديث الطلاق، كان من زبائنه المخلصين، حين قال له إن منظر امتزاج الملوخية والبامية بالرز، أمر تحتاج إليه النفس أياً كان طعمهما، مستدركاً بأنه لا يقول إنه لا يحب طعمهما من يده، لكنه يعتقد أن على من يطلب الكمال الذي هو لله وحده، أن يتزوج أو يتعلم الطبخ.


تعود عبد الحميد على أن يأكل لدى (محسوب الحسين) في أيام الزنقة التي يتأخر فيها في الشغل، أو يعود متعباً منه، ومع أنه كان يأكل ويشكر طبقاً للتعليمات المثبتة على لافتة أسعار المحل، إلا أنه كان يقدم نقداً تحليلياً لاذعاً لكل طبق أكلناه، حين كنا ننتقل إلى قهوة (الأهلي والزمالك) المواجهة للمطعم، والتي تقع على ناصية تجمع شارع المحطة بشارع الصناديلي، والتي أصبحت من مدمنيها، منذ أن عرّفني عبد الحميد عليها، وأصبحت بعد فترة قصيرة غرفة معيشة ومكتباً أجتمع فيه مع أصدقائي، وأذاكر فيه، وأشاهد عليه مباريات الدوري والكأس وما يتيسر من مسلسلات وأفلام، وربطتني مودة عميقة بجرسوناتها الذين كانوا يتسامحون معي، دوناً عن بقية الزبائن، فلا يلحون علي بضرورة أن أطلب طلباً كل ساعة على الأقل، مثلما يفعلون مع بقية الزبائن، ربما لأن منظري وأنا أفرش كتبي وأوراقي على إحدى الطاولات، كان يعطي القهوة خصوصية ما، بالإضافة إلى خصوصية مشاريبها التي كان يعتني صاحبه بها، فلا يكتفي مثل القهاوي المجاورة بتقديم الشاي والقهوة والشيشة والحلبة الحصى والينسون والحاجة الساقعة، بل يقدم أيضاً الكركديه الساقع والسخن والسحلب والقرفة وحمص الشام والزنجبيل والزبادي الخلاط والموز باللبن، وكان رخص أسعار مشاريبها مقارنة بمقاهي وسط البلد، يدفع أحد أصدقائي الميسورين للشك الساخر في كنه مكوناتها، وبخاصة السحلب الذي كان يزعم أنه يمتّ بصلة قرابة لأحد جرسونات القهوة، وهو ما كان يتفق معه عبد الحميد الذي كان ينهرني حين أقوم بطلب شيء غير الشاي والقهوة والحلبة الحصى، لأنها لا يمكن أن تقارن بالمشروبات التي يحضر موادها الخام معه من أسوان.

لو كان لي أن ألخص أهم ما تعلمته من عبد الحميد خلال الشهور القليلة التي كنت أراه فيها كل يوم تقريباً، قبل أن تباعد بيننا الحياة، فقد كان أهمية أن لا تتنازل عن المزاج كيف وأينما عشت، لأن الحياة بدون مزاج لا تساوي همها، وقد كان مزاجه في الحياة ربانياً، لا علاقة له بمزاج أخيه في البانجو، الذي نهره حين دعاني إليه، ثم اكتشفت أنه لا يقربه ولو على سبيل التجربة، لأنه يرى أن المزاج الذي لا يجتهد الواحد في صنعه لنفسه، مزاج كتيان يتحول إلى سم يذل صاحبه، لكنه برغم موقفه القوي من المكيفات لم يكن يقلق مزاج أخيه وابن عمه، حين يشربان بصحبته كل ليلة، مسلماً أمره لله فيما يشمه مرغماً من أنفاس كانت تؤكد نفوره من المكيفات، وحين اكتشف عبد الحميد أنني لا علاقة لي بالمزاج المائي كما قال له مؤمن من قبل، انبسط كثيراً وقال إنه استخسر أن يقوم شاب له مستقبل ـ كما كان يراني دائماً ـ بتبويظ دماغه بنفسه، وإنه استنقص مؤمن لأنه تصور أن عبد الحميد يمكن أن يعتمد تقييمه للناس على ما يشربونه أو يشمونه، لكنه يعذره لأن "اللي ما يعرفك يجهلك"، لكنه صارحني بعد أن توثقت علاقتنا أكثر، بأنه يتفهم نفوري الدائم من مؤمن، ليس لأنه رأى عليه شيئاً يعيبه، بل لأن مؤمن زيّاط أكثر من اللازم، وقد علمت التجارب عبد الحميد أن ينفر من الكذابين، ومن الزياطين، لأنهم في ساعة الشدة ينزلون على الفاضي ويخذلون من يُعلّق عليهم الآمال.

لم يكن عبد الحميد يعرف وقتها أنني أنا الذي سأخذل مؤمن في ساعة الشدة، وأنني سأكون الاستثناء لحكمه المطلق، وأنه سيغضب مني بسبب ذلك، وسيخاصمني لفترة، لكن خصامه لي انتهى سريعاً، حين جاء إلى الشقة التي استعدناها، ليودعني ويقول لي إنه قرر أن يعود ثانية إلى أسوان، لأن إقامته في القاهرة أصبحت تقل مزاجه وتنكد عليه، وربما لو استمرت فترة أطول لجابت له المرض، خاصة أنه لم يكن متحمساً لعمله في الشركة الشرقية للدخان، لأنه كان يرى أنها شركة تجيب المرض للناس، ولم يكن مستريحاً وهو الذي لم يشعل سيجارة في حياته، لفكرة أن يكسب رزقه من حرق الآخرين لرئاتهم وحناجرهم بالسم الهاري الذي تبيعه شركته، وحين ألححت في معرفة ما إذا كان قد حدث شيئ ما يجعله يأخذ هذا القرار المصيري، وهو المقدم على زواج لم يكمل الاستعداد له، قال لي بعد تردد إنه رأى جده الراحل في المنام وهو يحذره من الإصابة بسرطان في الحنجرة، فاعتبر ذلك تحذيراً أخيراً من القدر له لكي يترك وظيفته اللعينة.

لم أستغرب حين سمعت ما قاله عبد الحميد، بل بدا لي ذلك متسقاً مع طريقته في التفكير ونظرته إلى الأشياء، يعني مثلاً كنت قبل أن تتوثق صداقتي به، أرى في السطوح المحيط بغرفتنا سبيلاً إلى التهلكة، وأتعامل معه كمنطقة طوارئ، لأن أبسط عثرة خلال السير فيه يمكن أن تؤدي بك إلى التدحرج، لتجد نفسك مرمياً من سابع دور، وكان ذلك الكابوس يداهمني كثيراً في لياليّ الأولى في السطوح، وحين حكيت عن ذلك الكابوس لعبد الحميد، قضى عليه بعد أن سخر منه بشكل منطقي، حين حسب عدد الخطوات التي تفصل باب غرفتي عن حافة السطح، والتي جاوزت العشر خطوات، وهو ما كان يعني أنني لا بد أن أطير حين أتعثر لأصل إلى حافة السطح وأسقط منه، أو أن يقوم شخص ما بدحرجتي على السطح على طريقة أفلام الكونج فو والأفلام الهندية التي كان عبد الحميد يسخر من مشاهدتي لها في سينما الفانتازيو الصيفي كل أسبوع.

لم أكن من محبي تلك الأفلام، لكنني كنت مجبراً على مشاهدتها، لأن "نظام تشغيل" السينما كان يقضي بعرض فيلم كونج فو أو فيلم أكشن أجنبي وفيلم هندي مختصر إلى النصف تقريباً، إلى جوار فيلمين عربيين أحدهما قديم والآخر جديد، وكان عبد الحميد يأتي معي أحياناً إلى السينما الواقعة ـ حرفياً ـ في ميدان الجيزة، حين تعرض السينما فيلماً من أفلام "السوفت بورن" السبعينية، خصوصاً إذا كان الفيلم من بطولة ناهد شريف، التي لم أكن أحبها، لكنه كان يكنّ تقديراً خاصاً لها، ويقول لي وهو يحرك إصبعيه كأنه يدعك ولا مؤاخذة حجراً كريماً: "دي الممثلة الوحيدة اللي فخاذها فيها فكرة مختلفة"، وحين قلت له إني سمعت أن جلدها كان لونه في الحقيقة غريباً، لأنه كان يقترب من الزرقة أحياناً، رد علي بشخرة، وكان قليلاً ما يشخر، لأنه كان يؤمن بالقول الشائع إن الشخرة تنجّس الفم أربعين يوماً، ثم حذرني من ترديد هذه الأشياء في حق من ماتوا، لأن الميت لا تجوز عليه إلا الرحمة وذكر المحاسن، ثم نقل الحديث إلى محاسن ميرفت أمين، التي كانت تنافس ناهد شريف على عرش قلبه، وحين تحدثنا هاتفياً لأول مرة، قال لي إنه سمع ميرفت أمين تقول في حقي كلمتين حلوين في برنامج تلفزيوني، وأوصاني بالسلام عليها، وأن أقول لها إن مواطناً من أسوان، كلما رآها في أي فيلم أو مسلسل منذ عرفها، يحمد الله ويثني على بديع صنعه ويدعو لها بالصحة، وقد أبلغت الرسالة لميرفت أمين كما أوصاني عبد الحميد.

لم يكن عبد الحميد متديناً وقت أن تعارفنا، لم يكن يصلي إلا الجمعة في المسجد القريب منا، وفي حين كنت أذهب إلى الجمعة متأخراً، لكي أفوت خطبة الشيخ عرفة السمج، كان عبد الحميد يحضرها من أولها، لكنه كان يقوم على الغداء بتحليلها نقدياً بأسلوب ساخر في غاية الإمتاع، وكان يدهشني بنقده لما يرد فيها من أغاليط، كاشفاً عن ثقافة لغوية لا بأس بها، اكتسبها من دراسته وهو طفل في كُتّاب بلدته، ولذلك كان يحلو لنا السهر في ليالي كثيرة، نقرأ فيها سوياً للمتنبي وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل ومحمود حسن إسماعيل الذي عرفت قيمته بفضل عبد الحميد، ونستمع إلى مختارات فاروق شوشة في برنامجه الإذاعي (لغتنا الجميلة)، والذي أحببته أيضاً بفضله.

في الوقت نفسه، لم يكن لعبد الحميد "طقطان" على القراءة، لأن عمله في الحسابات والبيانات كان يجعله ينفر من القراءة في أوقات فراغه، لكنه كان يرجوني من حين لآخر أن أحكي له قصة تعجبني لنجيب محفوظ أو يوسف إدريس، وكان يصر على أن أحكيها له من الذاكرة، ليعلمني دون أن يقصد، كيف أقوم بتجويد قدرتي على الحكي، وكيف أعيد كتابة القصة التي تعجبني في دماغي إذا رأيت أنها بحاجة إلى مبالغة فنية ما لتجتذب مسامعه أكثر، وكيف أقوم بسد ما تحدثه الذاكرة من ثغرات فيها، وحين كان يقاطعني ليسأل عن دوافع أفعال بعض الشخصيات التي بدت له غير مقنعة، كان اجتهادي في الإجابات المرتجلة على أسئلته درساً مبكراً في السيناريو لا أنساه له أبداً.

كان مؤمن المتعجب من توثق علاقتنا المفاجئ والسريع، يسخر من جلسات سمرنا الطويلة، ويترك لنا الغرفة، ليذهب إلى غرفة عبد الحميد، ليلعب الطاولة مع حسن، ثم يعود ليطلب منا فض قعدة حصة المحفوظات والبلاغة لكي ينام، فيقول لي عبد الحميد وهو ينصرف إن الشتاء مسيره سيرحل، وفور أن يدفأ الجو، ستنتقل قعدتنا إلى ركنه المفضل في السطوح، الذي كان يحب أن يتشمس فيه كلما حانت الفرصة، وبفضل جلوسي معه في ذلك الركن، تخليت عن موقفي العصابي من السطوح، وتعلمت كيف أُجيل النظر فيما حوله، فأستمتع برؤية أبراج الحمام في الأسطح المجاورة، وأتأمل تشكيلات السحب البديعة ساعة العصاري، وأنتشي ببهجة العيال بطياراتهم الورق حين يساعدهم الهواء على تطييرها، وهي عادة لم تنقطع، حين عدت أنا ومؤمن إلى شقتنا السليبة، بعد أن عاد محمود ورانيا من غيبتهما المفاجئة، وتدخلا لإعادة شقتنا إلينا، حيث ظللت أحرص على الصعود إلى عبد الحميد في ساعات العصاري، لأشاركه الجلوس في ركنه المفضل، لكننا لم يُكتب لنا أن نعقد جلسات سمرنا في ليالي الصيف، كما كنا نأمل، لأن عبد الحميد ترك السطوح مثلنا، لكنه ترك شارع المحطة والجيزة والشركة الشرقية للدخان، وعاد إلى أسوان، ولم يغادرها أبداً بعد ذلك.

.....

نكمل الأسبوع القادم بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.