ما بعد "شارْلي إيبدو"

26 فبراير 2015
+ الخط -

لا يحتاجُ المُتأمّل في تداعيات الهجوم على مقرّ الأسبوعية الفرنسية السّاخرة "شارلي إيبدو" إلى وقتٍ كثير، حتى ينقشعَ غُبار العاصفة التي أُثيرَت بعد الحادث، وما اسْتَتْبعَ ذلك من موجة الاستثمار السياسيّ والطائفيّ المُغرِض، والتي أحْسنَت توظيفَ تَهوُّر شابّيْن فرنسيين مُتطرّفيْن في فَهْم الإسلام، في الإغارة على الدّين الإسلامي، وتشويه صُورته، وشَيْطَنة مُعتنِقيه. ويبدو أنّ تريّثاً قليلاً قبل إصدار الأحكام وإطلاق الاتّهامات المجّانية بدون عُنوان، مُفيدٌ كثيراً في فَهم المُلابسات الكاملة المُحيطة بالحَدث، وتشكيل صورة شاملة عن مُختلف أبعادِ وانعكاسات أكبر عَملٍ مُسلّح يَستهدفُ بلاد الأنْوار منذ عُقود.
ليْس من باب المصادفة أنْ يتمّ الإعلانُ عن انتحار مُفتّش في الشرطة الفرنسية، تمّ تكليفُه بالتّحقيق في حادث الهجوم على "شارلي إيبدو". وليس غريباً أنْ تَظهَر أصواتٌ من داخل فرنسا تؤكّد مَقتل المُشتبه فيهما بتنفيذ الهجوم، الأخَويْن كواشي، قبْل تاريخ الحادث بأشهُر؛ حيث أسْفرت تحقيقات باشرتها بسُرعة الشرطة الفرنسية بعد الهجوم عن كَوْن الأخويْن كواشي، اللّذيْن جرى اتّهامُهُما بالوقوف وراء هذا العمل المُسلّح، قد سَبَق وَأنْ قَضَيَا في سبتمبر/ أيلول 2014، وذَهَبا ضحيّة الصّراع السّوري، تحت راية أحَد التنظيمات الإسلامية المُتطرّفة.
ثِمارُ الاستثمار السياسي للهجوم، بغضّ النّظر عن الواقف وراءَه، بدأت أُولى تجلّياتِها مع ارتفاع أسْهُم شَعبيّة الرئيس الفرنسي، فرانسوَا هولاند، بعد تاريخ الهجوم، من 20% إلى حواليْ 40% (حَسب استطلاعات رأي بعد حادث "شارلي إيبدو")، مع قُرب موعد الاستحقاقات الرئاسية الفرنسية المُرتقَبة سنة 2016. ارتفاعٌ في شعبية اليَسار الفرنسي يَرومُ قطعَ الطريق على اليَمين المُتطرّف، بقيادة ماري لُوبّين، للوُصول إلى عَتبات قصْر الإليزيه، من دون نسيان أنّ اليمين المتطرّف الفرنسي يَعتبرُ فَزّاعة "الإرهاب" وقضيّة التضييق على هجرة المُسلمين من أبرز الأوراق الانتخابية الرّابحة، والمُوَظَّفة بقُوّة في استِمالة أصواتِ شريحةٍ عريضة من الفرنسيّين المُصابين بـ"داء الرُّهاب من الإسلام" (الإسلامُوفوبْيا).
أما موجةُ الاستثمار الطائفي والدّيني، فتَجدُ أبرز تَمظْهُراتِها في الأرقام المُتصاعدة لإحصائيّات الاعتداءات العُنصريّة ضدّ الجالية المُسلِمة في الغرب عموماً، وخصوصاً أوروبا، ولا سِيَما في فرنسا، في الأيّام التي أعْقَبت الهجوم على مقرّ المَجلّة الساخرة. ولعلّ مَقتل ثلاثة طَلبة مُسلمين في ولاية كارُوليْنا الشمالية في الولايات المتحدة، برصاص مُواطِن أميركيّ مُعادٍ للأديان، دليل على تزايُد مَنسوب الكراهيّة والعُنصريّة ضدّ كلّ ما يَتعلّق بما هو إسلامي.
ويبدو أنّ المستقبَل القريب والمتوسّط يَحملُ مزيداً من الاعتداءات العنصرية، المادّية أو المعنويّة، وهي اعتداءاتٌ تَستهدفُ، في نهاية المطاف، إصابةَ الإسلام ورُموزه في مَقتَل، وتشويه صُورته، أو التشويش عليها في أذهان الرأي العام الغربي والعالمي؛ وذلك هو الغرضُ الأساس مِن مثل هذه الهجمات، وانعكاساتُ أحداث 11 سبتمبر 2001 على مُسلِمِي العالَم ليْسَت منّا بعيدة.
وتزامُناً مع تصاعُد العَداء للمسلمين في الغرب، لنْ تَخِفّ لَعْلَعة الرّصاص في مختلف أرجاء القارّة العجوز، فالعنف لا يُوَلّد إلاّ عنفاً لا يقلّ حدّة عن "العنف الأُمّ"؛ وليس الهُجومَان المُسلَّحان اللّذان كانت العاصمة الدانماركية كوبنهاغن مَسرحاً لهُما، أخيراً، سوى تلك الشّجرة التي تُخفي وراءَها غابةً من رُدود الأفعال العنيفة تُجاه موجة العنصرية المتنامية التي تجتاحُ المسلمين في أوروبا.
أحداثُ العنف التي شهدتها أوروبا وأميركا، أخيراً، أظهرَتْ مدى النّفاق العالَمي والسكيزوفرينية العابرة للقارّات والحدود، والتي بَرزت، جليّاً، في مواقف المُنتظَم الدولي وأغلب وسائل الإعلام بالعالَم الغربي من تلك الأحداث. نفاقٌ سيَكشفُ أكثر عن وَجهِه البَشِع مع التغطية الإعلامية "الباهتة" من وسائل الإعلام الأميركية لحادث مقتل ثلاثة مسلمين في كارولينا الشمالية، إنْ لم يكن بعضهم قد تجاهَل أو مارَس التّعتيم الإعلامي على الحادث، وكأنّ مَنْ سَقطوا ضحايا التعصّب وكراهية الأديان في أميركا ليْسوا أرواحاً بَشريّة، تستحقّ تغطية لائقة بالطريقة نفسها التي تمّت بها تغطية أحداث باريس.
والثّابتُ أنّ أحداثاً على شاكلة الهجوم على أسبوعية "شارلي إيبدو" قد أكّدت، بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ تَعامُلَ أغلب المسلمين معها لا يَعدو أنْ يكون عاطفياً مَحْضاً، لا يُقيم للعقل وَزناً، ولا يَحتكِمُ إلى المَنطق مِعياراً رئيسيّاً للتعاطي الأنسب مع مثل هذه الهجمات. وهي هجماتٌ عادةً ما تكون مُدْرَجَةً على جدول الأعمال. لكن، تَنتظرُ فقط دوْرَها للتنفيذ، ومِن ثمَّة توظيفِها بشكلٍ يَخدُم أجندة أطراف سياسيّة غربية لا تريد للإسلام، كدينٍ مُتسامِح، أنْ يَتصدّر لائحة الأديان التي يُقبِل غربيّون كثيرون على اعتناقها كل سَنة.


 

92F4FA87-A33B-424D-927A-7C5FF322CD27
92F4FA87-A33B-424D-927A-7C5FF322CD27
يوسف يعكوبي (المغرب)
يوسف يعكوبي (المغرب)