مايندهنتر: أن تُفكّر كما لو أنّك قاتل

09 أكتوبر 2019
معظم هؤلاء القتلة يحبون الشهرة والصحافة (نتفليكس)
+ الخط -
مخيف وفاتن وساحر وحالك الظلمة، هو عالم صائد العقول، أو "مايندهنتر"، الذي أطلق أخيراً الجزء الثاني منه على منصة نتفليكس.

يقول بطل المسلسل، العميل هولدن فورد (جوناثان غروف) من قسم الأبحاث العلمية السلوكية في مكتب التحقيقات الفيدرالي: "إن كنت تريد أن تمسك بقاتل؛ عليك أن تفكر كقاتل". وكي يتمكن من إمساك القتلة، كان عليه أن يجلس ويتحدث مع أسوأ "المُفترسين" في الولايات المتحدة، ضمن لقاءات مُغلقة، تتلاشى فيها العلاقة بين "المجرم والمحقق"، ويمكن أن تصل إلى ما يُشبه الصداقة في بعض الأوقات.

المسلسل من إنتاج وإخراج ديفيد فينشر؛ صاحب روائع أفلام العنف النفسي كـ"فايت كلاب" و"زودياك" و"سيفن" وغيرها. كعادته، يحاول فينشر أن يدخلنا في المتاهة النفسية لأصحاب الشخصيات الأكثر إغراءً والأكثر فتكاً، لنكتشف عوالمهم الداخلية المغرية، كي تصبح أقل فتنة.
العمل مأخوذ عن كتاب "داخل وحدة النخبة لمكافحة الجريمة المتسلسلة التابعة لمكتب التحقيقات الفيدرالي"، المنشور عام 1995، من تأليف المحققين جون إي دوغلاس ومارك أولشاكر، وكتبه إلى الشاشة جو بينهول، الذي ساهم في الإخراج والإنتاج أيضاً، مع تشارليز ثيرون وآخرين.


مغرٍ جداً
يروي "مايندهنتر" قصة وحدة التحقيق النفسي في مكتب التحقيقات الفيدرالي، ومبادرتها الجديدة لاكتشاف دواخل عقول أسوأ القتلة خلال الستينيات والسبعينيات في الولايات المتحدة. يبدأ عبر متابعة مؤسس تلك الوحدة، هولدن فورد، وزميله المخضرم في سلك مكتب التحقيقات، بيل تينش (هولت ماكولاني) وكيف تمكنا مع الطبيبة الباحثة "ذات المظهر الجليدي" ويندي كار (آنا تروف) من تطوير دراسة لتصبح منهجاً معتمداً في مكتب التحقيقات الفيدرالية، وتدريب قوات الشرطة على استخدامها لحل أسوأ القضايا الجنائية.

يقوم الجزء الثاني بشكل أساسي على تطبيق تلك الدراسة وتطويرها، عبر المشاركة في قضايا في الولايات المتحدة خلال زمن المسلسل، أي في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، التي اعتبرت حقبة القتلة المتسلسلين والجرائم ذات الدافع الجنسي. وذلك بعد أن خضنا في الجزء الأول تجربة التعرف على تلك الوحدة وتأسيسها والصراع الشخصي لـ هولدن فورد بسبب تحولاته النفسية وأزماته الأخلاقية المتعلقة بلقاء القتلة المتسلسلين والانجذاب لهم، كـ إدموند كيمبر (كاميرون بريتون، قاتل طالبات الجامعة ذي السمعة السيئة الشهير جداً، والذي يسبب للعميل فورد نوبة هلع تنتهي بداية الحلقة الأولى من الجزء الثاني.

أطلقت هذه الوحدة تسمية "القاتل المتسلسل" ضمن علم التحقيق الجنائي، بعد أن تمكنت من تقديم ملخص عن عقلية القاتل المتسلسل، ذلك الشخص المنظم جداً، النرجسي، محب السلطة وغير القادر على التخلص من النهم للقتل والانتهاكات الجنسية التي تنهش في مخيلته وتبقيه أسيرها.



حب الشهرة الذي يراود القتلة المتسلسلين، جعل الميكروفون نجماً من نجوم المسلسل؛ إذ نراه كل مرة في الشارة، ويتقدم التحقيق، ليلتقط التجارب العنيفة والمخيفة والغريبة والمغرية التي تقصّها أكثر العقول وحشية، وكأن الميكروفون لا يبقى أمامهم على الطاولة فقط، وإنما يتسلسل إلى دواخلهم في المقابلة، لكنه يقدم من جهة أخرى بعداً جراحياً دقيقاً كي يكون السبيل الوحيد الذي يفصلنا كمشاهدين، أو حتى كشخصيات، داخل المسلسل، عن الوقوع في شباك تأثيرهم الجذاب. يبدو ذلك واضحاً في كل مرة يطلب فيها المحقق بدء التسجيل كمقدمة لدخول ذلك العالم الغريب داخل عقل القاتل، وكأنه مبضع الجراحة الحاد القادر على "فتح" ذلك العقل شديد الغموض والظلمة، من دون نزع صيغة اللقاء "الصحافي" القادر على إخراج الحقيقة من أفواه وعقول القتلة.

معظم هؤلاء القتلة يحبون الشهرة والصحافة، ولا يخشون من أنفسهم أو من وصف ما قاموا به بأدق التفاصيل، وكأنهم يبحثون عن جمهور. اللقاءات مع إد كيبمبر توضح ذلك الهوس عند القتلة المتسلسلين، والأمر ذاته بالنسبة لـ دينيس ريدر (سوني فاليسنتي) في المشهد الذي يمارس فيه خنقاً ذاتياً وتنتشر على السرير صور ضحاياه وقصاصات الصحف التي تتحدث عن جرائمه، ما يعطيه شعوراً باللذة، إذ تم الاعتراف به، وجرأته في تصحيح أخطاء الصحافة حول جرائمه (لا يريد أن يسيء أحد لسمعته).



ألعاب نفسية
لن يسلم المشاهد من التماهي مع الشخصيات من أفضلها إلى أسوئها أخلاقياً، لاستغلال المسلسل هوس المجتمع الحالي بالقتل والخوف والشهرة، وهالة و"سحر" القتلة المتسلسلين، لكنه يتمكن من تقديم توازن معين عبر استخدام البحث العلمي كحامل للقصة. ولأن الشخصيات موجودة حقيقة، فيبدو العمل ضمن تركيب كلاسيكي لـ ديفيد فينشر بوضع هذه الشخصيات المغرية أمام المشاهد مباشرة، إلى حد الانجذاب التام، ثم البدء بتكسيرها وتقديم حقيقتها المرة والمخيفة.
يحاول المسلسل العبث بما يعجبنا، فهو يعلم أننا مسحورون بهؤلاء القتلة، ويظهر لنا عبر المشاهد التي يضطر فيها العميل تينش إلى قص أحداث من لقاءاته مع أكثر القتلة شهرة في الاجتماعات واللقاءات الرسمية، وكأن هناك نوعاً من العقدة النفسية التي تشكلت بين السبعينيات والثمانينيات حول القتلة المتسلسلين، وكيف أصبحوا مشاهير كغيرهم، لكن عبر قتلهم للناس.

يلعب ديفيد فينشر مع المشاهدين، يستخدم ألواناً وخطوطاً محددة: سوادٌ يستدعي ظلام الهاوية، لقطات هندسية، تُظهر وتُخفي مشاعرَ وأحداثاً نعلم أنها خطيرة. ففي الجزء الثاني، عندما تتحول الضواحي التي يعيش فيها العميل بيل تينش إلى مكان مرعب بسبب دينيس ريدر، يحاول لقاء الضحية الحية الوحيدة، وهو شاب تم إطلاق النار على وجهه.

خلال هذا المشهد ضمن لقطات متوسطة تُقرّبنا من الشخصيات في ذلك المكان البعيد عن أنظار القتلة؛ نبقى، نحن المشاهدين، مع بيل تينتش في نفس الدائرة، لا يُسمح لنا برؤية الضحية؛ فقد طلب الشاب عدم إظهار وجهه، لكننا في نفس الوقت نسمع أحداث الجريمة كاملة، لنتخيلّ؛ فالمخيلة أكثر رعباً من الحقيقة. كما أن إقامة المكتب في قبو من جهة أخرى، يعبر بشكل كبير عن دخولنا وخوضنا في أعماق الإنسان، فنحن ندخل في عالم الـ"هو" في النفس البشرية الذي تختبئ فيه أكثر الرغبات سرية.

نجد في نهاية المسلسل فراغاً يعيشه بيل وويندي وهولدن، والسبب إلى حد كبير هو عدم تمكنهم خلال العمل من التغلب على غرورهم لحل مشاكلهم الخاصة، على الرغم من مطالبتهم من القتلة القيام بتلك المحاكمة العقلية. يستخدم المدير الجديد للوحدة، تيد غان، (مايكل سيرفيريس) غرورهم ليؤدّوا عملهم. يقول الأشياء التي يحبون سماعها، يسمح لهم بالحصول على الاعتراف بهم، كي يستفيد من طرف آخر في إظهار إمكانيته في إدارة الفريق.

من جهة أخرى، تستمر الألعاب النفسية في المسلسل بشكل كبير، فلا يمكن أن يكون المحقق هولدن إلا مرآة عن المشاهد داخل اللعبة؛ يظهر دائماً كمراقب في لقطات خاصة، بعيدة عن اللقطات الأخرى التي تجمع الشخصيات الأخرى بعضها بالبعض الآخر وبعناصر القصة، كما يظهر في لقطات تعبر عن تساؤلات وعن ردود فعل مطلوبة من المشاهد، إضافة إلى أسئلته البسيطة وقدرته على التذكر ومحاكماته العقلية أيضاً.




أثر الندبة
تأثير المصائب التي تقع على الضحايا واضح منذ الجزء الأول، لكنها لم تكن مؤثرة جداً إلى أن بدأت تقع على الشخصية الرئيسية هولدن فورد، عندما تنهار حياته العاطفية وصحته النفسية. فذلك المحقق الدقيق، الواثق، كان يخسر في كل دقيقة يقضيها في العمل جزءاً كبيراً من روحه. هذا الصراع الأخلاقي، هدفه خلق تساؤل حول ما يخلفه القتلة من رعب وخوف على المستوى المجتمعي، وليس فقط على من وقعت عليهم المصيبة. في الجزء الثاني نعيش حالة الفقدان التي عاشتها أمهات الأطفال في مدينة أتلانتا ويلعب معنا المسلسل مرة أخرى. نحن نعلم أن أي طفل مفقود هو ميت حكماً، ونعلم أن هناك قاتلاً، وإن بحثنا على الإنترنت، أو "كنا أميركيين" سنعرف من هو القاتل، فقاتل الأطفال في أتلانتا شهير جداً. وهذا يمثل حبكة رعب كلاسيكية، وضعها المسلسل أمامنا ليزيد من رعبنا خلال المشاهدة.

يحاول المسلسل التأكيد في جزئيه على فكرة الندبة، التي تتولد بسبب المخاوف الحقيقية من الموت ومن القتلى، يريد التأكيد على أنها ندبة، تنشأ وتعيش وتتحكم بحيواتنا وتفاجئنا وتؤلمنا.
يتعمق هذا الإحساس مع تطور أحداث المسلسل ومشاهدتنا لهذا الرعب وكيف يتدخل في حياة الشخصيات الخاصة، إذ لم يعد هناك فرق بالنسبة لهم بين حياتهم وعملهم. هولدن لا يتمكن من إقامة علاقة شخصية طويلة، ترك حبيبته بعد أن ضاق بها إصراره على هذا العمل المضني.
أما الدكتورة ويندي كار، التي رأت في الدراسة الجديدة نوعاً من التحرر من علاقتها المؤذية، فقد عادت إلى الانغلاق على ذاتها ككل الشخصيات الأخرى، الأمر ذاته بالنسبة للعميل بيل تينش الذي لم يتمكن من تجاوز مخاوفه في ما يتعلق بابنه المتبنى (الذي يمكن أن يكون قاتلاً متسلسلاً في المستقبل). زوجته نانسي تينش (ستياسي روكا) التي قامت بكل المحاولات لإنقاذ ابنها، أوصلها الخوف إلى الإفلات، فلم تعد تريد ابنها، أصبح جزءاً من حلقة الخوف التي تعيشها تلك الضاحية. إنها الندبة، واستمرار الألم والإحساس بالضعف أمامها.

يتصاعد شعور الخوف وتضرب القشعريرة الأبدان كسوط خفي وناعم في كل مرة يظهر فيها دينيس ريدر -صاحب الخنق الذاتي- أو قاتل مدينة ويتشيتا أو كما يسمى (BTK: التقييد والتعذيب والقتل) في المسلسل، فهو يؤكد في كل مرة، أنه على الرغم من المحاولات الكثيرة لقوات الشرطة والتحقيقات الفيدرالية، وانشغالهم بها ما زال هناك من يقوم بجرائم فظيعة وستبقى مستمرة إلى أن يتم الإمساك به عام 2005. أمر مرعب ولا يمكن تصديقه، ويشبه الشعور بالعجز والخوف أمام مجرمي الحروب الذين ما زالوا طليقين، لا بل ويحكمون بلاداً.


صورة المرأة
في الجزء الأول، يتحدث المسلسل بشكل أكبر عن علاقة القتلة بالنساء: لماذا رجال؟ لماذا يقتلون النساء فقط؟ هل مشكلتهم الرئيسية كانت مع المرأة؟ أم هي رغبتهم غير المحققة تجاهها؟ أم هي مع والدتهم؟ أو هل السبب فتاة عرفوها في طفولتهم وتعرضوا للرفض من قبلها؟ يتساءل المسلسل عن رغبة أولئك القتلة في السيطرة على النساء، والتي تترجم في الاغتصاب وتشويه الأجساد التي يقتلونها، فبعضهم يغار من النساء، كما رأينا في الجزء الأول مع القاتل جيري برودوس (هابي أندرسن) "النحات" الذي يذوب في الأحذية النسائية ويقطع "نساءه" بعد قتلهن ثم يجمع أجزاءهن ليجعل منها تماثيل، أو بالأحرى جوائز جاهزة لممارسة الجنس، ما يثير التساؤل حول العنف الذي يوجه نحو المرأة في أي صراع داخلي ذكوري.



يطور المسلسل الصراع مع المرأة بداية في حبيبة العميل هولدن، ديبي ميتفورد (هانا غروس) التي نستغرب مع هولدن جرأتها أحياناً في حقبة كانت المرأة فيها عبارة عن لعبة لا يمكن أن تتجاوز الحدود (حتى بعد صيف 1969 وحركة الهيبي) لكن تم إبعادها من المسلسل سريعاً، أي كانت كالعادة وكأي دور نسائي في الحبكات المرعبة (دور مساعد بسيط).

تأتي بعدها الدكتورة ويندي كار ذات شخصية تنفث الصقيع والحكمة، وتجسد نوعاً جديداً من الصراع، اللاتهميش، صراع ما زالت المرأة تريد التغلب عليه. لا تريد ويندي أن تكون مهمشة في المسلسل، تريد أن تكون واضحة وفعالة في كل جزء من الدراسة، وتريد أن تحصل على كل المتعة والاعتراف بها على كل الأصعدة (خاصة المادية)، لكن يتم تهميشها خلال الحلقات الأخيرة من المسلسل، ولا نعرف إن كان ذلك يتعلق بالقصة، لتطور الأحداث في أتلانتا، أو بسبب تهميش المرأة كالعادة في هذا النوع من الحبكات، أو بسبب سوء تقدير من قبل الكتاب. ربما يكون ذلك مزيجاً من الثلاثة. لكن ذلك لا ينفي أن دور المرأة يعد تساؤلاً كبيراً في المسلسل.



صراع سياسي حالي
يقول المسلسل أيضاً إن المشاكل السياسية أبطأت وأخّرت عمل المحققين؛ إذ واجه الأبطال كثيرا من المشاكل المتعلقة بالإدارة وبالبيروقراطية وفي المنظومة التي استهلكت الجزء الأول وامتدت بقوة في الجزء الثاني مع تغير الإدارة القديمة المتعنتة، التي حلت مكانها إدارة رأت في تلك الوحدة فرصة لتلميع صورة "الإف بي آي" بقيادة تيد غان الذي عمل مع الرئيس الأميركي حسب المسلسل كمسؤول تسويق.

وضع المسلسل أمامنا مشاكل الإدارة الأميركية في حقبة نهاية السبعينيات والصراعات العنصرية التي تعيشها، فالتساؤل الذي قدمه العميل هولدن عند إصراره على أن القاتل أسود والارتباك حول الموضوع أثار الحساسيات الموجودة أصلاً خاصة أن أتلانتا في المسلسل كانت قد انتخبت أول عمدة أسود ليديرها. كما أنه حاول التركيز على عدم رؤية السود في الولايات المتحدة ككتلة صماء واحدة عندما ذكر رئيس الشرطة في أتلانتا الاختلاف الكبير بين السود في مدينة أتلانتا جنوب الولايات المتحدة وبين السود في بالتيمور حيث ترعرع هولدن وحيث تعرفنا على ذلك المجتمع في مسلسل المهمّ " ذا واير".
المساهمون