ماركيز وفدوى العلوي

15 فبراير 2017

ماركيز وفدوى العلوي

+ الخط -
أراد غابرييل غارسيا ماركيز أن يزور الولايات المتحدة، فرفضت السلطات الأميركية منحه تأشيرة دخول، على خلفية أفكاره اليسارية. عبرت زوجته الجسر الذي يربط أرض الولايات المتحدة بالأراضي المكسيكية بضع ساعات، لإكمال الإجراءات الخاصة بها، فيما اختار هو أن يجلس على مقعد خشبي عند حافة الجسر، يقرأ الصحف، إلى غاية عودتها التي لن تستغرق وقتا طويلا، وقد فكرت زوجته أن تحضر له معها كنزة صوفية هدية، لكنها لم تحسم أمر اللون الذي تختاره، فوقفت أمام دكان في الجانب الأميركي، وراحت تعرض عليه من هناك نماذج من الكنزات المتوفرة، كي يختار اللون الذي يريد. يقول ماركيز إن ذلك كان مضحكا حقا، لكنه عكس، على نحو مثير، رعونة الأميركيين وحماقتهم. لكنهم، والحق يقال، أظهروا قدرا من الحصافة والحكمة، إذ لم يستجوبوا زوجة ماركيز عن أصلها وفصلها، وعن علاقتها بزوجها، ومتى تعرّفت به وأين، وكيف استقرّت هذه العشرة بينهما، وهل حدثت بينهما خلافات أو مشكلات، وما سر "الكنزة" التي تريد إهداءها إلى زوجها، ولم يسألوها أيضا عن شخصيات روايات ماركيز، وانتماءاتهم وأصولهم العرقية، ولا عن علاقته بكاسترو. أكثر من ذلك أنهم لم يلقوا القبض عليها بالجرم المشهود، وهم يراقبونها وهي تتكلم عبر الحدود مع شخصٍ غير مرغوب فيه، لخطورته على الأمن القومي. 

بعد عقود من تلك الواقعة، زاد الأميركيون من رعونتهم وحماقتهم، وفقدوا كل حصافة وحكمة، في مواجهتنا نحن العرب على الأقل، فقد تعرّضت سيدة كندية للتحقيق والإهانة والمنع من دخول أميركا على خلفية أصلها المغربي. في التحقيق، سئلت فدوى العلوي عما إذا كانت تمارس شعائر الإسلام، وأي مسجد ترتاد، وكم مرة تصلي فيه، وعن طبيعة النقاشات التي تدور في المسجد، وكذلك رأيها في سياسات ترامب، وفتشوا هاتفها بعد أخذ كلمة السر، وطلبوا منها توضيحا عن فيديوهاتٍ مسجلة على الهاتف، ثم أبلغت بقرار منعها من دخول التراب الأميركي.

تمنيت، وأنأ أقرأ الخبر، لو أن سلطات الحدود في دولة عربية تجرأت مرة واحدة، واحدة فقط، واستجوبت فردا أميركيا واحدا، واحدا فقط، وسألته عن لونه وجنسه وأصله، وهويته الدينية، وعن أي كنيسةٍ يرتاد، وعن طبيعة النقاشات التي تدور في الكنيسة التي يرتادها، فماذا سيقول العالم عنا، أخمن أنهم لن يصفوننا بالرعونة والحماقة فقط، وإنما سنتهم بالعنصرية، والفاشية، وانتهاك حقوق الانسان، ومساندة الإرهاب. ولربما دعا بعضهم إلى معاقبة الدولة العربية التي تتجرأ على ارتكاب هذا الفعل الأحمق، في مواجهة شعوب متحضرة، وذات قيم وتقاليد ديمقراطية عريقة!
وقد ينبري بعض أبناء جلدتنا، (هل هم من أبناء جلدتنا حقا أم من أبناء جلدة أخرى؟) للدفاع عن الإجراء الأميركي وتبريره، كما فعل مسؤولٌ في دولةٍ عربية في تبرير حظر دخول مواطني دول عربية إلى الولايات المتحدة، حيث وصف هؤلاء المواطنين بأنهم من "شعوب متخلفة، وغير منتجة ما تستاهل تكون في أمريكا، شو يسوي يمني في أمريكا، والا صومالي، والا سوري، هؤلاء خربوا أوطانهم، ما يخربون أمريكا (إذا دخلوها)!"
على هامش هاتين الحكايتين، يمكن أن نسجل مفارقات مثيرة للهم، أولاها أن أميركا أصبحت منطقةً محظورةً على العرب، لأنهم يحملون القنابل والعبوات الناسفة في حقائب سفرهم، وفي هواتفهم، فيما يدخل الأميركيون بلاد العرب، مرتدين الجينز الأزرق، وحاملين صواني الهمبرغر، وشراب البيبسي كولا، وأعلام الحرية. وثانيتها أن الأميركيين يقولون لنا إنهم سيشاركوننا همومنا، وسيساعدوننا في القضاء على "داعش" وأضرابه، وسيمنحون حكامنا قدرا من الحماية والرعاية، ويخترعون لنا "عملية سياسية" على قدر حالنا، في مقابل أن يحصلوا على ثرواتنا التي لا نحسن استخدامها في أي حال. وثالثتها أننا أنفسنا نفرض حظرا بعضنا على بعضنا الآخر، ونضع الحواجز والأسوار، ونقيم الجدران الكونكريتية بين مدينة وأخرى، أو حتى بين هذا الحي وذاك، ونمنع مواطنينا من عبور الجسور التي تربط هذه الضفة بتلك. ورابعتها، وهي الأشد إثارة للهم، أنهم يقولون لنا إننا نعيش عصرا جديدا يسمونه عصر "ما بعد الحقيقة"، حيث ينشغل الذهن بالإبهام والغموض، وبكل ما هو غير معقول، في هذا العصر نشعر، نحن المغلوبون على أمرنا، أننا لا نستطيع الإمساك بكل هذه الحقائق السائلة، لأنها سوف تفلت من بين أصابعنا لحظة إمساكنا بها.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"