مارسيل كوربرشوك، أنا أحد أبناء الثقافة العربية

12 يناير 2015
مارسيل كوربرشوك، بعدسة أحمد جاسم الحسين
+ الخط -

ثلاثُ لغات للحوار مع الدبلوماسي والباحث الهولندي، مارسيل كوربرشوك: الهولندية والعربية والإنجليزية. ومن لا يعرف مؤلّف "البدوي الأخير"؟ أحد أجمل الكتب وأمتعها عن البدو في شبه الجزيرة. ليس مارسيل باحثًا عاديًّا في الشعر النبطي، إذ اختار العيش في الصحراء مع البدو، مفتونًا بهم وبذاك الشاعر الساحر الملقب بـ "الدندان". التقى به ملحق الثقافة في يومه التقاعدي الأوّل. فتح مارسيل قلبه: أصبحتُ حرًّا من العمل الدبلوماسي.

- كيف وجد مارسيل كوربرشوك تلقّي منجزه بين الثقافتين العربية والأوربية؟ أمن مفاجآت في هذا السياق؟ أم أنَّ ردود الأفعال كانت متوقعة؟ قرأنا عن إقامة دعاوى من شخصيّات وردتْ في كتابتك، وسخرية من جهدك ووصفه بـ "المؤامرة". أيمكن عدّ ذلك ناجمًا عن إشكاليّات علاقة الثقافة العربيّة مع الآخر، أمّ هذا شأن الأمم المستضعفة، إذ تلجأ إلى ما يُريحها من تصنيفات؟

أنا ضحية من ضحايا التنميط الذي يملأ العقل البشري عامّة. ثمّة رغبة لوضع الناس في سلة واحدة، استسهال تصنيفيّ يقضي على الخصوصية. ربّما اقتضت التقاليد الثقافية العربية أن تكون هناك أسلحة تشهرها في وجه المستشرقين، منذ إدوارد سعيد، الذي حاكم جهود المستشرقين القدماء بمعايير بحثية معاصرة وهذا فيه ظلم لجهودهم، لكنّي لا أعدّ نفسي مستشرقًا، أنا، في وجه من وجوهي، أحد أبناء الثقافة العربية. عملتُ حفّارًا إنثربولوجيّا فيها. وكأيّ حفّار، وجدتُ الكثير من المثالب أو العيوب، لكنني تركتها جانبًا. إذ إن همّي، التركيز على البعديْن المعرفي والإنساني مرفقيْن بمحاولة توصيف نقدية للثقافة العربية. أشعر أن ثمّة حالة من الظلم، في تلقّي جهد كثير من المستشرقين. لكنني أنظر في العالم وظواهره؛ أين العدل؟ قد تقول لي، ربمّا ثمّة شخصيات أُصيبت بأذى ما، نتيجة كتاباتي. الأذى ليس ناجمًا عن رغبتي في الإيذاء، بل هو أذى المعرفة. كان هؤلاء يعيشون في ظلال الرمل والتهميش، وفي لحظة تاريخية، ثبتُّ كلامهم وأفعالهم فأصابهم الأذى. لعلّ مشكلتهم ليست معي كشخص بل مع التدوين والكتابة. لا يوجدُ شيء شخصي، الصورة التي قدّمتها هي أنماط من الشخصيات وحالات فكرية ومعتقدات اجتماعية وسياقات معاصرة لتلك الأنماط الاجتماعية بصيغة موسعة. كانوا أمثلة مُركَّزة للمشهد العام، حيث قدّموا تلك النماذج الإنسانية بأساليب متعددة. إذًا ليس هناك عامل شخصي في ما قدّمته. لقد أُعْجِبتُ بهم، بعاداتهم، في عالمهم، إذ علّموني كيف تعيش في الماضي وتتواصل مع الحاضر، بالطبع أنا أتفهّم لماذا يعدُّ بعض القراء رؤيتي شخصية. المملكة العربية السعودية حتّى ذلك الوقت، بقيت كما لو أنها مجتمع شفوي، ثمّة فرق كبير بين ما قيل وما يجب أن يقال، لكن ذلك الاختلاف يتبع لكيفية التأويل. في السعودية عُدّ ما كتب أو ما طُبِعَ أنه حقيقة أو جزء منها بموافقة السلطات الرسمية. فإنْ توافق ما صدر مع رغبة قارئ ما، فإنه يعدّه سببًا إضافيًّا للبهجة وللتفاخر أمام خصومه. هذا هو السبب الرسمي الذي يحتِّم على الكتابة أن تلتزم بالموضوعية. لكن الباحث الأجنبي عنده ولع في التمتّع بمساحات من الحرية بالكتابة، لأنه يعيش خارج أنظمة تلك الحياة البدوية هناك، وربما خارج سياقات القراء. فقد مرّت معي حالات، من الماضي تعيش في الحاضر. أهملتها يد الحياة من مئات السنين، وهي تمثّل نماذج وأنماطًا بشرية في الفروسية والشعر والكرم والفقر والتهميش، لذا يجيء حكمهم هنا؛ لكأنّ الماضي يريد محاكمة الحاضر، بأدواته المفاهيمية والبحثية والمعرفية، وهذا من وجهة بحثية، أمرٌ من الصعب وجوده. 
- تنوعتْ كتاباتُكَ بين اليوميّات والسيرة والدراسة السياسية والبحث الأكاديمي. ثمّة دعوات بحثية في العالم تهجس بالتخصص، أتناصر هذه الرؤية؟ وما الناظم الذي تدور في فلكه كتاباتك؟

أحسبُ أن المشكلة هنا ليست في التخصص بقدر ما هي في المنهج والإخلاص المعرفي. حسنًا، في مسيرتي البحثية في الثقافة العربية، ثمّة محطة تستحقّ الإشارة؛ قراءتي لقصص يوسف إدريس في الدكتوراه، وقد انزعج إدريس ممّا كتبت. من وجهة نظري، تتمّيز قصصه بقدرتها على الإمساك بلحظة وجعٍ من التاريخ المصري المليء بالفقر والوجع. لذا عودةً إلى سؤالك، لا أرى ابتعادًا بين بحثي في الصحراء وبحثي في قصص إدريس. إذ إن منهجي هو ذاته المنهج الانثربولوجي الحفري المعرفي، والتوصيفي بروح نقدية، وكذلك ربما الانطلاق من شخصيات واقعية، ومن تجارب الناس وسيرهم، يجعلهم أقرب إليك. أنا أحاول مقاربة الواقع بالاعتماد على النماذج البشرية الحيّة التي هي عيِّنات مُركَّزة من الحياة.
أحبّ القاصّ يوسف إدريس ما كتبتُه عنه يوماً. فقد ابتهجَ حين أحضرتُ له قصة "أنشودة الغرباء" التي كان قد نسيها تمامًا، وهي أوّل قصة له نشرها في مجلة "القصّة"، لكنه انزعج عندما ذكرتُ في دراستي عنه ما وجدته من وثائق في لقاءاته الصحفية التي اطلعتُ عليها، تحمل معلومات متناقضة عن تخصّصه الطبي، فقد تقصّد التعريف بنفسه بتخصصات طبية مختلفة في حواراته، فمرّةً هو طبيب نسائية، ومرّة أخرى طبيب باطنية، وبعد مرور خمس سنوات كان مكتوبًا على باب عيادته أنه طبيب نفسي وعصبي!. ما حصل أن دراستي هذه عن إدريس ترجمها رفعت سلّام بعنوان "الإبداع القصصي عند يوسف إدريس"، وهذا ما جعله يعرف ما كتبت لأنه لم يكن يقرأ الإنكليزية.

- ثمّة روحٌ سريّة/ علنية في كتابتك تمثّلت في هذه القدرة الاستثنائية على التصالح مع أحوال من كتبتَ عنهم، وفي الوقت نفسه قدرتك على رصد مشاكلهم. شيءٌ من الالتصاق حدّ الحميمية، والافتراق حدّ القدرة على النقد. كيف استطعت التوفيق بين الحديْن؟.

عبر المنهجية العلمية والإخلاص للهدف. ليس بيني وبين من كتبتُ عنهم أيّة حالة عداوة. فلا يقطع مئات الكيلومترات ويعيش في الصحارى تجارب صعبة، من بقي في روحه حالات ضغينة أو كراهية. هناك تُنَقَّى سريرة المرء ليغدو البعد معرفيًا خالصًا. المعرفة لا تعني المحاباة أو المجاملة، ولا بدّ أن تبقى أدوات الباحث المعرفية، متحفزةً لتلتقط التفاصيل، وتعلن خصوصيتها عن سواها. لنأخذ علاقة الأبوّة والأمومة بالأبناء، لعلّها مثالٌ جيدٌ هنا، إذ لا أحد يستطيع التشكيك في هذه العلاقة وفي مدى إخلاصها، لكن، لا بدّ من الحزم والوعي بها لتصل السفينة إلى وجهتها. هذا هو عالم البحث المعرفي، عشقٌ وفي الوقت نفسه، القدرة على تمييز سلبيات المعشوق من إيجابياته. 

- ما أنجزته في ما يخصُّ الثقافة العربية والإسلامية، ليس سيرةً تقليدية، هو أقرب إلى تحليل بُنى الشخصية العربية في كثير من تجلياتها. هل يمكن أن تقدّم كباحث رؤى من تجربتك لحلّ بعض الإشكاليات التي تمرُّ بها هذه الثقافة؟ 

هذا سؤال صعب، تحتاج الإجابة عنه لفرق بحث. أسئلتكَ صعبة وتثير إشكاليات كبيرة. في ضوء تجربتي ورؤيتي، أظنّ أن أهم ما تحتاجه الشخصية العربية، هو الإيمان بحقّ الآخر بالنقد، والبحث عن المشتركات مع الآخر لا المُفرِّقات. ثمّة عسر هضم للنقد في الثقافة العربية، حساسيّة زائدة منه. النقد، وفق فهمي - أقصد النقد الفكري والاجتماعي والديني والأدبي - حالة تطوير للذات وللآخر. إعادة بناء كذلك، حرية مناقشة كلّ شيء على بساط المعرفة والبحث العلمي. يردّ كثيرون على النقد بالإعدام، لذا يلبس الدفاع عن النفس لباسًا عنيفًا إلغائيًا. هكذا تتوالى الحلقات؛ إعدامٌ يُبنى على آخر. الإعدام هنا، يوازي الإلغاء، فيتولَّد الاستبداد بأنواعه، ليغدو منهجًا تربويًا، هنا أكاد أتفق مع عبد الرحمن الكواكبي في الكثير من توصيفاته للاستبداد وما يؤدي إليه. لكنني، أختلف معه كثيراً في طرق التخلّص من الاستبداد. أنحازُ إلى المعرفة والعلم، وهو انحازَ لغير ذلك في البحث عن حلول للاستبداد. في ظنّي، الحوار هو الحلّ، لكنّه ليس الحوار للوصول إلى "التنازلات"- وهو مصطلح أتحسّس منه بصفتي دبلوماسيًا سابقًا - المصطلح الأفضل منه والأكثر تعبيرًا : "البحث عن المشتركات بين الجماعات المختلفة والأشخاص"، إذ إن طبيعة الحياة البشرية تقتضي وجود مشتركات بالفطرة، والقدرة على صناعة مشتركات أخرى تجمع البشر. أتفق معك في أن لكلّ مجتمع قدرة على قبول الجديد، بطريقة أخرى أقول يجب أن تبادر السلطات ومكونات المجتمع إلى التسامح في حال التغيير وإلا فإن كلا الفريقين سيفقدُ قدرته على تحديد ما يريد ويصبح عدائيًا رافضًا للآخر. بما في ذلك المجتمع الهولندي نفسه. لكننا حللنا المشكلة عندنا عبر الحوار، بينما في المجتمعات العربية، ثمّة محاولة لإجبار الناس على الأخذ بالجديد من دون حوار غالبًا. هنا أصلُ المشكلة، فما من نفسٍ بشرية لا تقبل التطوير والتغيير، بدرجات مختلفة طبعًا، لكن كيف تقنعها؟ هنا الاختلاف. سأعطيك مثالًا سياسيًا: حلم الوحدة عند العرب، من وجهة نظري هو حلمٌ مشروعٌ لأسباب عدّة، لكن ما الذي حدث؟ وُلِدَتْ كثير من حالات الاستبداد نتيجةً لحلم الوحدة أو بسببه. فالوحدة ليست حالة إكراه. خذ حالة الاتحاد الأوروبي، إذ حين اقتنع المواطن الأوروبي أن الوحدة طريق توفير ورفاهية وفائدة، صار هو يطالب بذلك. تحتاج الحالة الثقافية والمعرفية العربية، إلى سلطة روحية تقودها نحو الاعتدال وقبول الآخر. لا أقصد تمامًا المؤسسة الدينية، سواءٌ بأشكالها الموجودة أم المتخيلة، بل أقصد اتباع مسار الإقناع والروحانية والجمال، للتنبيه إلى حسنات التواصل مع الآخر لا البحث عن العوامل التي تبعد عنه. ليس الآخر هنا الغربي أو الأمريكي بالضرورة، بل شريكك في الوطن والحارة والشارع، وربمّا البيت. بالتأكيد، هذا لن يحدث بين يوم وليلة، إنما يحتاج إلى عملٍ طويلٍ ومتدرِّج ونقي وخطةٍ واضحة يعمل عليها مختصون.

- ثمة "مواضيع" في كتاباتك لا مهادنة فيها؛ حقّ المرأة في العمل والتعليم، والإيمان بحرية الآخر في المعتَقد، ونسبية الأفكار من حيث الصحة والخطأ، وعدم صوابية نظرية المؤامرة في الفكر والحياة. هل يمكن القول إنَّ رصدك لها وتأكيدك عليها ناجمٌ عن أنك وجدتها الإشكاليات الأبرز في الثقافة العربية؟

أنا أعدُّ نفسي بوجه من الوجوه كما قلتُ قبل قليل، مواطنًا عربيًا يؤمن بالآخر، ويريد التطوّر للمجتمع العربي وفق مبدأ تكافؤ الفرص والمساواة والعدالة. أظنّ أن إحدى أكبر حالات الظلم في المجتمع العربي تقع على المرأة، التي تُعامل في كثير من الطبقات الاجتماعية بصفتها نوعاً ثالثًا أو رابعًا، أو أنها تعامل بصفتها جزءاً من أثاث البيت، وهذا عامل معيق لحركة المجتمعات العربية. المرأة هي الأمّ التي ترضع أبناءها قيمًا تربوية وفكرية. مثلًا مشكلة زيادة السكان في مصر، لا حلّ لها بغير الاعتماد على توعية المرأة. لنتذكّر دعوات قاسم أمين. انظر بين ما كان يدعو له قاسم أمين وما يحدث اليوم. لا حلّ للمجتمع العربي لينهض النهضة المأمولة بغير التخلّص من حالات النكوص نحو الماضي والتعويل على مختلف عناصره، وهو مجتمعٌ شابٌ مشبع بالبطالة. أمّا حُجّةُ المؤامرة، فلا تعطينا المبرّر لئلا نعمل. كلّ المجتمعات الضعيفة تحتجُّ بالحجج نفسها، شرقاً وغرباً، قديماً وحديثاً. لكن لا حلَّ لهذه المجتمعات لتسير نحو الأمام، من دون تفعيل ذاتها وتطويرها. عندها، سيُخفض المتآمرون رؤوسهم ويتركون القافلة تسير. شاؤوا أم أبوا.

- كتب كثيرون عن صورة الغرب عند العرب والعكس بين حقليْ: الاستشراق والاستعراب، هل ستُبقي ثورة التقنية ووسائل الاتصال الحديثة والأقمار الصناعية، هذه الصورة القديمة، لعلاقة الشرق بالغرب، أمّ أنها ستكسر تلك الأوهام والحقائق؟

كثيرٌ من الغربيين حين يذهبون نحو الشرق، يبحثون عمّا يشبههم أو يعكس وجهات نظرهم. كثيرٌ منّا لا يبحث عن المُهمَّشين. المشكلة الأساسية أن نصمت أو أن نتحدث، نحن نبحث عن مرآتنا الخاصة التي تعكس من يشبهنا، لذلك ربّما لا نصل إلى الصورة الصحيحة. أمّا دراسات الرأي العامّ والواقع والدراسات الاجتماعية فغائبة ومغيبة. من هنا ثمّة خلل في صورة العرب التي نبحث عنها. ولا أظنّ أن ثورة التقنيات يمكنها إلغاء العامل البشري وهو الأهمّ. مثلًا، أنا ليس لدي تلفزيون ولا أشاهده، لكنني أتواصل عبر الإنترنت وأتخذ منه وسيلة معرفة. مشكلة التلفزيون، أمام هذا الطيف الواسع من الاختيارات، أنه يُوقِع متلقيه في مرحلة لهاثٍ واستهلاك، وبالتالي يفتقد متابعه لأهمّ خاصيتين تجعلانه منتِجًا: القراءة والتفكير. بالطبع لا أنكر أهمية التلفزيون في تاريخ البشرية بصفته مرتبطاً بحالة تاريخية ومعرفية وشيوع المعلومة في مرحلة ما، لكن لا بدّ من الانتباه إلى أن وسائل الإعلام هذه، تعيد حالة من العبودية، هنا تمامًا ما أريد قوله : القدرة على أن تكون هذه الوسائل ملكًا لك وفي خدمتك.

- تطرحُ في كتابك "البدوي الأخير" عن الحياة البدوية في السعودية غيرَ مرة، إشكاليةَ العلاقة بين اللهجة أو اللغة البدوية واللغة العربية الرسمية بصفتها علاقة بين المهمَّش والرسميّ؟ هل تنبئ اللغة بنمطِ حياة ونسق تفكير في ضوء تجربتك في الدراسة والمعايشة؟

في ما يخصّ اللغة العربية، أظن أن اللهجة العامية أقرب لروح البداوة منها إلى الفصحى، مع إقراري أن هناك الكثير من الكلمات التي تعود بجذورها إلى الفصحى، ربّما ليست من تلك المستعملة اليوم لكن تلك الموجودة في لسان العرب. طبعًا، الصورة اليوم تختلف عن تلك الصورة التي تحضر بأذهاننا إذا ما ذكرنا امرؤ القيس. أتفق معك في أن اللغة تحمل نمط حياة ونسق تفكير، حتّى إن الكثير من الشخصيّات التي ذكرتُها في كتبي، وأسهبتُ في الحديث عنها، تعدُّ استمرارًا للماضي في الحاضر، ويمثّل بعضُها نماذج حيّة للماضي في الحاضر. طبعًا أنا لا أشجّع على تفصيح العامي، ولا على جعل الفصحى عامية، لكن لا بدَّ من وجود هذه الأنماط في التعبير. أنا ضدّ قمع الظواهر اللغوية بحجج المحافظة على الرسمي، لا للاستبداد لا في اللغة ولا في السياسة، لا في البيت ولا خارجه، نعم للحوار والإقناع. تأّمل الحياة يكشف أن الكثير من الأشياء المختلفة وربّما المتنافرة يمكن أن تعيش جنبًا إلى جنب من دون أن يلغي أحد منها الآخر.

- صورة الصحراء بعينيْك، صورة جميلة، بيد أنها ليست رومانسية، بل موجعة لكنّها عميقة. هل رحلتْ تلك الصورة القديمة للصحراء أمّ أنها كانت في الأساس صورةً متخيَّلة تخصّ السرديات أكثر مما تخصّ الواقع؟

يقول أحد النقّاد في تعريفه للأدب إنّه كذبٌ جميلٌ ومقنع. ربّما هذه إحدى صور الصحراء، التي تحمل المتضادّات: الرومانسية بإيحاءاتها الحالمة، والواقعية بمرارتها. ثمّة حالة أنثربولوجية نفسية في تلقّي عالم الصحراء، أنت ترصد الظواهر الجميلة فيها وأنت تعي الواقع، الصحراء تتيح لك العيش المرّ وأنت واعٍ به، تمارس الحلم وأنت مستيقظ، ثمّة حالة توتّر بين حالتين، متضادّتين أنت على وعي بهما. في مقدّمة كتابي قلتُ: العيش على كثيب مرتفع؛ يعني الإطلالة من علوّ شاهق لتحقيق صورة دقيقة، الجلوس على جبلٍ وهضبة. كانت مفتتح كتابي "البدوي الأخير" مشهدًا فوق الجبل، كما فعل "الدندان" عندما صعد إلى تلّة عالية ونفث مشاعره وعواطفه من الغضب، مستجدياً الإلهام، متحدّثًا عن الظلم الذي حاق به من كلّ الجهات. فتهلُّ الأبيات الشعرية عليه كالجراد النازل صوب أغصان الشجر، وقلبُه يتبخّر كما تتبخّر القهوة في دلّة صُنِعتْ في مدينة "الأحساء"، وكما تُفتتح القصيدة العربية القديمة بالنسيب افتتحتُ كتابي النثري بالوقوف على كثيب، وربّما رغب كثيرون أو كثيرات بعد قراءة كتابي، أن يعيشوا في الصحراء ولو لأيام. ربّما تمنت صبيةٌ ما، أن يكتب "الدندان" قصيدة في جمالها تذهب بين القبائل، ربّما، لكنَّ تَحَمِّلَ تفاصيل الحياة الصحراوية، أنا وأنتَ وهي، نعرف أنه صعب جدًا جدًا. الحياة الرومانسية في الصحراء قد تكون في أحد جوانبها أشبه بحلم يقظة تعيش جماله وتستمتع به وأنت عارف أنه حلم لا حقيقة.

- الحسُّ الساخر الظاهر في كتاباتك، يقوم على القدرة على رصد المفارقات، هذا "السارد المختفي" تحت روحك، كيف لجمته ليظهر الباحث والدبلوماسي فيك؟ مع ذلك، لم تعد جعبته فارغة من الكثير من المفارقات الوجودية والفكرية والاجتماعية والمعيشية اليومية؟ 

أثرت شجوني بسؤالك عن المفارقة. يشغلني هذا السؤال منذ زمن، ما رأيك أن نتلمّس له جوابًا معًا؟ حسناً سأقول لك، ربمّا ترجمة "Irony" بـ "مفارقة" ليست دقيقة تمامًا. وأنت قلت لي إن المفارقة قد تقود إلى السخرية، وإن هناك من كتب عنها من النقّاد، أنت ربّما انتبهت إليها في الأفلام وربما بعد عيشك في أوروبا. أنا من جهتي، أرى المفارقة حالة تفكير أكثر منها حالة إضحاك لها علاقة بالبيئة أو الظروف التربوية. ليست المفارقة استهزاءً بالآخر أو تقزيمًا له. هي حالة احتجاج دائمة بوجه الرسمي لتصبح نمط حياة، كما في أوروبا. لكنك تعبِّر من خلالها وتكمل حديثك، لا تتوقّف عند الموضوع لتصنع منه مشكلة. هو تعليق أو احتجاج ثمّ إكمال. لنقل إنها بصورة من صورها، ثورة فكرية ضدّ النظام، محاولة تقليل من هيبة الرسمي. ربّما لا تناسب الحالة الثقافية والاجتماعية العربية، لأنها تعزل الرسمي عن المهمّش. المفارقة احتجاجٌ على الرسمي في حالة الوسط، ليس رفضًا. هنا ندخل في لعبة الأقنعة، وفلسفة الشكّ. ثمّة حالة يقين في الثقافة العربية، أو ركون لليقين، بينما ثمّة حالة بحث عنه أو شكّ فيه في الثقافة الأوروبية. وبالتالي تصبح ثقافة اليقين والبحث عنه، حالة استبداد وفرض واستعمال العنف لاستنباته ربّما، حتّى لو وصل الأمر إلى تدمير الذات. يمكننا في هذا السياق تذكّر أغراض الشّعر العربي؛ الفخر والهجاء والمديح. إذ حين خالطتها حالات من الاحتجاج أو المفارقة، امتشق كارهو الشاعر، أقلامهم ليجففوا أسهمه عند الممدوح. وإذا أردتَ الدخول إلى السياسي لنستشهد به لا لنتحدَّث عنه، فأقول لك مثلًا، في الحالة السورية، تكمن إحدى مشاكل المعارضة مثلاً في حالة اليقين. ثمّة يقين لدى كلّ المكوّنات في صحّة أجنداتها، وبالتالي هي تبحث عن مناصرين لتلك الأجندات أو عن ظروف لتفرضها. مع أنَّ واجبها الأكيد، ما دامت تريد مصلحة سورية، البحث عن مناطق مشتركة عند الآخر لتبني عليها. وهذا بالضبط ما تحتاجه المعارضة. ما لم تؤمنُ أطرافُها بالحاجة إلى الشريك المختلف بصفته ضرورةً، لن تنجح في تحقيق أهدافها. بعد لقائي الكثير من أطرافها، بحكم عملي السابق الذي انتهى منذ أيام، وجدتُ أن إلغاء الآخر لا يزال المسلك المفضَّل لكثير من مكوّناتها، وهذا ما يستثمره الخصم ليستمر في تحقيق أجنداته وتدمير ما بقي من سورية.
المساهمون