ماذا ينتظر الفلسطينيون؟
منذ انتهاء جولة القتال في غزة أخيراً، والساحة الوطنية الفلسطينية تنتظر مستجدات جديدة، تنهض بالوضع الوطني، وتستكمل ما تم الاتفاق عليه بشأن المصالحة بين حركتي فتح وحماس، وتشكيل حكومة الوفاق. وإذ بانتكاسة جديدة تقوم على قواعد الخلاف والانقسام ذاتها التي نشأت منذ عام 2007، وما زالت تداعياتها تتوالى، واحدةً بعد أخرى، من دون ظهور أية آفاق ممكنة للخلاص من مكبلات الانقسام، ومعه مكبلات الاحتلال؛ والتي باتت لصيقة وضع غير طبيعي، يسود في ثنايا حركة تحرر وطني، تحولت بفعل تسوية "أوسلو" واتفاقاتها، وتقلبات أحوال السلطة، إلى شيء هجين، لا هو ثورة ولا هو حركة تحرر، ولا هو سلطة دولة ذات سيادة، ولا حتى سلطة شكلانية، هي في جوهرها أشباه لأشباه.
ما بين الثورة/المقاومة، التي تقاعست السلطة، بل وتقاعدت، عنها منذ أكثر من عشرين عاماً؛ والتسوية/المفاوضة التي جرى إفشالها عشرات المرات، منذ ما بعد عام 1993، حين جرى إنشاء السلطة، بموجب اتفاقات أوسلو، لتنقسم إلى سلطتين، بسبب الخلافات والاختلافات السياسية، وتباعد الرؤى، ونشوء وضع اجتماعي واقتصادي جديد، بلور وضعاً طبقياً وسلطوياً جديداً، على جانبي الانقسام، في غزة ورام الله، كل له مصالحه التي تباعدت عن سرديات منطق المقاومة/الثورة، لتقترب أكثر من سرديات منطق التسوية/المفاوضة؛ حتى في الحرب على قطاع غزة أخيراً، والقتال على أشده، كانت أعين الطرفين تميل إلى هدفٍ، هو أدنى من الأهداف الدنيا المعروفة، والمتداولة في سوق تسويةٍ، لم تزل في رحم الغيب، على الرغم من معرفة أدق التفاصيل عنها.
وفي هذا دليل قاطع على أزمة مستحكمة، ومأزق لم تعد ممكنة معالجته، فلطالما جرت محاولات عديدة في عواصم عربية كثيرة، وحتى في حواضرها الدينية، للخروج من هذا المأزق، ولكن، عبثا كانت نيات الاستنقاع في قعر المأزق، تسبق كل نيات الخروج منه. وها هي الأمور تعود إلى المراوحة في الاستنقاع من جديد. لا سيما في ظل انفراط عقد "جبهة المقاومة والممانعة" التي أشبعت موتاً، بعد أن جرّت ويلات ومصائب لا تحصى؛ ليس لشعب جرت المتاجرة باسمه طويلاً، بل لشعوبٍ عانت، وتعاني، مصائب ويلات الاستبداد والطغيان، والمتاجرة باسمها، تحت رايات من الكذب والزيف والخديعة.
وفي ظل معطيات واقع الحال العربي، باتت قضية الشعب الفلسطيني الوطنية أبعد ما يكون عن أولويات أنظمة وقوى وتيارات وأحزاب عربية عديدة، ذات طابع ومنشأ قوموي، أو ديني، أو حتى لدى بعض أصحابها المباشرين، حيث الوضع الوطني الفلسطيني بات، هو الآخر، يبتعد عن كونه أولوية الأولويات، مركوناً إلى الهوامش والزوايا، زوايا انزوت فيها القضية الوطنية، ولم تعد تشكل الهم الرئيس لقوىً، لا مبرر لوجودها أصلاً، إلا أنها تتبنى وتدافع وتنافح عن قضيتها؛ لا عن القضايا الهامشية التي جرّتنا وتجرّنا إليها الأصوليات الإرهابية، وتريد لنا الانتحار في المنافحة عنها، والدفاع عن سرديات منطق تديّني، لا علاقة له بالدين، أو بقضايا وحياة الناس.
وتنطلق العودة إلى الاشتغال، والانشغال في دائرة الكفاح التحرري ومحوره، أولاً، من العودة إلى الاهتمام، ومتابعة تطورات الحركة الشعبية الفلسطينية تحت الاحتلال، وتنميتها ورعايتها وقيادتها في اتجاهات كفاحية، لا تغيّب عن بالها مجموعة من أشكال الانتفاض والمقاومة الشعبية، وحتى المقاومة المسلحة؛ لا سيما في مواجهة كل أشكال التسوية الممكنة التي جرى بحثها في جولات التفاوض المغدورة، وكان يرفضها الجانب الإسرائيلي، وفي مواجهة صلف الائتلاف اليميني الحاكم في إسرائيل وغروره وانحيازه لأهداف استيطانية. لهذا، ما لم يبادر الفلسطينيون إلى الخروج من حالة الاستنقاع السياسي والتنظيمي، لن يكون في وسعهم فرض موقف فلسطيني موحد، في مفاوضات الهدنة والتهدئة في القاهرة، وهذا ما سوف يمس بطرفي الانقسام، وعودة التفوق وقوة الردع النفسي والسياسي الإسرائيلي إلى الحلبة السياسية، وإلى حلبة ضفاف الواقع الاقتصادي والاجتماعي بمجملها، في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهذا نكوص ما بعده نكوص، أين منه تلك الأفراح بعد الأتراح، التي أنشدت لنصرٍ لم يتم في حركة صراعنا التحرري مع عدو استيطانيٍّ استعماري، حربنا معه طويلة، بطول المشوار الذي تتطلبه فلسطين، كما حلمنا وحلم آباؤنا وأجدادنا بها؛ دولة مستقلة ذات سيادة، تحترم مواطنيها كافة من كل الأطياف والمكونات.
وما لم يبادر الفلسطينيون، اليوم، إلى استعادة وحدتهم الوطنية، لا الفئوية أو الفصائلية، المحسوبة على هذا المحور الإقليمي أو ذاك؛ سيبقى الانقسام السياسي والجغرافي مهيمناً، في فضاءات الفلسطينيين، أينما وجدوا. الأمر الذي يعزز من جبهة العدو الإسرائيلي الذي مهما بلغت خلافات قواه ومكوناته الحكومية والحزبية، يبقى أكثر تماسكاً على أهدافه الإحلالية والاستيطانية ضد الأرض والإنسان الفلسطيني.
وما لم يبادر الفلسطينيون للانتفاض على واقعهم الذاتي، أولا، والموضوعي، ثانياً وأخيراً، فسيبقون تحت مرمى نيران الأعداء من كل لون وصنف؛ الداخليين قبل الخارجيين، من قبيل تلك النزعات الانقسامية والروح الفئوية والفصائلية، والمصالح الزبائنية وارتداداتها السلطوية، التي تعمل على إبقاء الوضع الوطني الفلسطيني مشرذماً، وعاملا بدوافع ذاتية، وروافع موضوعية، للتفريط بعوامل قوته، بل استثمارها للأسف؛ ضعفاً واستكانة، وعدم الحسم في المسائل الكفاحية التي تحفظ للوضع الوطني الفلسطيني مكانته الكفاحية والتحررية. وذلك كله جراء مواقف لا تدفع إلا نحو العودة إلى ما كان، والتفريط بما كان يجب أن يكون، على ما رأينا، ونرى الآن في أعقاب توقف الحرب العدوانية على القطاع، في انتظار التوصل إلى اتفاق هدنة، أو تهدئة، طويلة المدى! حيث عادت مواقف التفريط بمكامن القوة تهيمن على طرفي الانقسام، في انتظار ما يأتي به غودو، الذي يأتي ولا يأتي.
إلى أين من هنا، إن لم يبادر الفلسطينيون إلى الثورة على أنفسهم، وعلى واقعهم المتردي، بفعل أخطاء بعضهم وخطاياهم وتقاعسهم وعجزهم، وبفعل غياب الروافع العربية وانشغالها بواقع "داعشي" أليم، فرض علينا حروباً داخلية، تفضي إلى حروبٍ من كل صنف، يتداخل فيها الداخلي بالخارجي، حيث نشهد تحالفاتٍ ملتبسة فوق الطاولة وتحتها، حتى ليمكن القول، إنه ليس من السهل التوصل إلى استراتيجية خروج من واقع معقد كهذا، من دون خسائر استراتيجية، لا تعد ولا تحصى، في ظل عالم تعاد صياغته وصياغة محاوره وتحالفاته، على أسسٍ، باتت تستجد كل يوم.