ماذا ننتظر من "العربي الجديد"؟
كل مواطن يشكل رأياً، ويتخذ موقفاً، من الشأن الجاري في بلده وأمته، يفعل ذلك بناءً على نوع المعلومات التي تصل إليه. كل مواطن يشارك في الانتخابات، أو لا يشارك، يخرج في تظاهرةٍ، أو يجلس في بيته، ينزل إلى الشارع للمساهمة في ثورة، أو لا ينزل، يؤيد هذا المرشح أو يعارض ذاك، يدفع الضريبة أو يتهرب منها، يتطوع في الجيش أو يفر منه، يدافع عن قضية أو لا يدافع عن أية قضية... كل هذا يتوقف إلى حد بعيد على نوع المعلومات والآراء والتحاليل والصور والأخبار وأدوات الفهم التي يقدمها الإعلام لهذا المواطن، مادة خاماً لتشكيل الرأي والموقف والمزاج العام.
لا يشكل أي شعب آراءً أفضل من نوع المعلومات التي تقدم إليه، في المدرسة والتلفزة والإذاعة والجريدة والموقع الإلكتروني. لهذا قال المفكر الفرنسي، ريجيس دوبريه، إن الإعلام كنيسة العصر الحديث. وهذا معناه أن الإعلام صار يلعب الدور التوجيهي والإيماني الذي كانت تلعبه، في أوروبا، الكنيسة في القرون الوسطى، حيث كانت مركز العلم والمعرفة والترجمة والوعظ والإرشاد، وهي أداة الوصل بين الأرض والسماء.
مشكلاتنا اليوم في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الثقافة ما عادت بسيطة وسهلة، يمكن لأي مواطن، مهما كانت ثقافته محدودة، أن يعيها ويلم بها. مشكلات العصر الحديث معقدة جداً، ومتشابكة ومتحركة، ومتفاعلة بين قوى الداخل والخارج، وبين المصالح الصغيرة والكبيرة، ووسط المجتمعات والدول والقوى الكبرى. لهذا، يلعب الإعلام دوراً كبيراً وحيوياً في ربط المواطن بمسرح الأحداث، وربما بكواليسه، ويلعب دوراً محورياً في إدارة الصراع وسط المجتمعات، وتشكيل الرأي العام بشأن مختلف القضايا والحلول والبرامج والمشاريع.
الإعلام العربي اليوم، في أغلبه الأعم، أَصبح أسلحة فتاكة في أيدي حكومات وأنظمة وشركات ورجال أعمال وقصور وأمراء، لا يستعملون هذا السلاح في الدفاع عن حق المواطن في معرفة الحقيقة، أو في بناء موقف، أو نشر وعي، أَو زرع بذور نهضة أو رقي. يستعملون إعلاماً يحتقر المواطن، ويعتبر عقله كيساً يمكن ملؤه بأي شيء. وسائل الإعلام صارت أدوات لحراسة المعبد، وحذاءً خشبياً يوضع في أرجل الشعوب حتى لا تكبر، وتخرج عن السيطرة والتحكم. الإعلام العربي بات أسلحة فتاكة، موجهة إلى قتل الوعي النقدي لدى العربي، وأداة خلط وتشويش وتزييف، حتى أصبح قول الشاعر العربي: "ومن يكـُنِ الغرابُ له دليلاً *** يمرّ به على جيف الكلابِ" ينطبق تماماً على أبواق الدعاية الإعلامية الراهنة.
أما الإعلام المصري، والذي كان في قلب الأحداث العربية عقوداً، فقد صار، معظمه، ماكينة للكذب وتشويه الحقائق. ثم لمّا تعب من هذه المهمة، انتقل، الآن، ليصير كلباً مسعوراً ينشر داء الكراهية، وتمائم الشعوذة، وأعمال السحر الإعلامي المقيت، من دون أن يهتز له ضمير أو عقل أو حس. إعلام حوّلَ الانقلابَ ثورة، و"الإخوان المسلمين" شيطاناً يرجمه صباح مساء، وشارة رابعة أداة جريمة، والصحافيين جلادين والتلفزات أدوات تعذيب يومي للمشاهدين، والمشير السيسي نبياً، جاء ليخلص المصريين من فرعون العصر الحديث.
في هذه الأجواء التي تحول فيها الربيع العربي خريفاً، وإعلام العرب إعلاناً مدفوع الأجر سلفاً، والصحافة بضاعة فاسدة، يطل مشروع "العربي الجديد" مشروعاً إعلامياً يطمح إلى أن يكون صوت الربيع العربي، الذي ما عاد له صوت، والمعبر الأمين عن قوة اللحظة التاريخية التي يعيشها العالم العربي في هذه الظرف الدقيق، وهذا هدف، لعمري، نبيل ومهمة جسيمةٌ، في مناخ مشحون بالاستقطابات الإيديولوجية الحادة، والاصطفافات السياسية القاتلة، وتردّي المستويين، المهني والأخلاقي، في البيت العربي.
تعرّف مدونة الناشرين الأميركيين الصحافي بأنه "محامي الدفاع عن الإصلاحات". ونحن لا نطمع في أكثر من هذا، أن يصير "العربي الجديد"، على الورق، أو شاشة الويب، محامياً شجاعاً وعقلانياً ومنصفاً في الدفاع عن الإصلاحات الكبرى، وأَن يترك الكلمة الأخيرة للقارئ، ليرى ويحكم. لكن، بناء على معلومات صحيحة، وآراء متعددة، وتحاليل عميقة، وصور أمينة، وروايات مختلفة، وحجج دامغة، وأداء مهني ذكي، يخلص للصحافة كرسالة، قبل أن تكون مهنة.