مات شحادة الذيب

06 فبراير 2015

حاجز للجيش اللبناني في مدخل مخيم عين الحلوة (يونيو/2007/أ.ف.ب)

+ الخط -
مات شحادة الذيب من قرية العلمانية قضاء صفد. مات في عين الحلوة، حيث عاش فتى عام 1948 إلى أن بلغ ثمانين حولاً قبل أيام. قضى شحادة عمره عامل بناء، كما قضى أبوه عمره عامل تنظيفات في "أونروا"، وأخوه عوض عاش راعياً أجيراً محترفاً. كان جارنا شحادة نجماً من نجوم الأعراس في حارتنا البائسة، فهو أحد "روّيسة" الدبكات الأشهر، يساهم في أعراس أهل الحارة، ولا يترك عرساً من غير أن يكون له فيه حضورٌ ساطع، بشعره الأجعد الأسود المصفف بعناية فائقة، ملمّعاً بـ"البريلكريم" الشائع في سنوات اللجوء الأولى. وبملابسه الأنيقة، وإن كانت فقيرة، وابتسامته التي كانت تضيف إلى سحر أدائه في الدبكة سحراً وجاذبية، بوجهه الداكن السمرة. وكانت سيجارته المشتعلة أبداً علامة مميزة لهذا الرّويس البارع.
كانت حارتنا في المخيم محظوظة بعدد الرجال الذين يجيدون الدبكة، روّيسةً أم مغنين أم عازفي المجوز والشُبيبة، لكن شحادة الذيب كان مميزاً، فقد كانت الدبكة من تفاصيل شخصيته، جسداً وروحاً. كان حين يمشي في حارتنا، يخبُّ خبباً، كحصان جامح، واثقاً بنفسه. يعتمد في مشيه على قدميه دفعة واحدة. في وقت واحد، يضرب الأرض ضربات خفيفة أحياناً، صارمة أحياناً أخرى، فعيناه كانتا تشعان بضوء يضيء طريقه، ولا يسقط، وكأن في رأسه صوت مجوز بعيد، سمعه في طفولته، في عرس حافل بالفرح على شاطئ بحيرة الحولة في فلسطين، وظلّ صوت المجوز ينساب لاهياً ساعةً، حزيناً ساعةً أخرى، في روحه المنفية في مخيم الشقاء المسمى عين الحلوة، ما يجعله يمشي زاهياً بما تحمله روحه من رغبة للقفز في الأزقة التي صارت تضيق وتضيق إلى أن اختفت ساحات الدبكة في حارات المخيم، لتصبح ساحة الدبكة في حارتنا التي شهدت تألقه، وجموح رغباته، زقاقاً بالكاد يتسع لمرور دجاجتين معاً.
لم تكن إسرائيل التي اجتاحت المخيم عام 1982 المسؤولة فقط عن التغييرات الجغرافية فيه، حين جرفت البيوت والحارات، لكي تسهل على مجنزراتها الدخول إلى عمق الحارات، بحثاً عن المقاومين وأطفال "الآر بي جي" كما أطلقت عليهم، وإحكام سيطرتها على الباقين من السكان، ما أدى إلى محق الساحات الصغيرة التي عرفت احتفالات اللاجئين بأعراسهم، وإنما كان جشع بعض السكان، أيضاً، وراء هذا الاختفاء، فقد استولى بعضهم على تلك المساحات الصغيرة من الملكية العامة، في غياب أي سلطة أو مرجعية إدارية وسياسية، ليبنوا غرفاً أو دكاكين بطريقة التشبيح. وقد تكون الحواجز والأشرطة الشائكة والبوابات الحديد التي تحيط بالمخيم من الجيش اللبناني جعلت الإحساس بضيق المساحات داخل المخيم يتضاعف، والشعور بالاختناق ينعكس على رؤية المكان، فلا ترى غير انعدام كل أفق، واندثار كل ما يذكّر بالاتساع. أضف إلى هذا كله أن ما يمكن وصفه بالعولمة وانتشار وسائل الميديا الحديثة، من التصوير بالفيديو ومحاولة تقليد الشباب أفلام السينما في أعراسهم جعل المخيم "لوكيشن" غير ملائم ألبتة لتصوير حفلات الأعراس، فصرنا نشهد انتقال الأعراس من المخيم إلى القاعات والمطاعم في مدينة صيدا، أو الجوار في حفلاتٍ، تتضمن برامج حافلة من زفةٍ، تقوم بها فرقة محترفة وإضاءة صارخة ومطربين شبه محترفين، إذا كان العريس ميسور الحال. ويتم تصوير كل هذا البرنامج على شريط فيديو، أو دي في دي لاحقاً، يتداوله الأهل والأصدقاء، متضمناً مشهداً لا بد منه، إذ يركض العريس خلف عروسه على شاطئ صيدا، تقليداً لحسين فهمي ونجلاء فتحي في الفيلم الدرامي "دمي ودموعي وابتسامتي" للمخرج حسين كمال.
مات شحادة الذيب، أخيراً، كما مات كل الروّيسة في حارتنا، ومات المغنون، ومات عازف المجوز وظريف الطول والدلعونا، وماتت ساحة الدبكة، وضاقت الدروب كلها.




8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.