ولدت واسمها مائدة جاسم محمد عزاوي، في منطقة الكرخ، في بغداد عام 1937. كان والدها ضابطاً في الجيش العراقي. في مقتبل عمرها، حفظت الأجزاء الأولى من القرآن في الكتاتيب، ثم دخلت مدرسة "الرصافة" الابتدائية، وهناك شاركت للمرة الأولى في أداء الأناشيد المدرسية منتصف الأربعينيات. وبسبب القيود الاجتماعية الصارمة، لم يكن لمائدة أن تدرس الموسيقى، لذا فقد كانت ترفّه عن نفسها بالمشاركة في الأداءات الدينية مع النساء من أقاربها والمعارف، حتى بداية الخمسينيات، حين أعجب بصوتها الموسيقار العراقي منير بشير الذي شجّعها وأكّد موهبتها، لتتقدم لاختبار الإذاعة وتتخطاه بالتقدير الممتاز.
على الرغم من ظهور نزهت في ظرف عجّ بالفنانين والمشاهير بعد جيل النصف الأول من القرن العشرين، أمثال محمد القبنجي، وناظم الغزالي، ويوسف عمر، وغيرهم، إلا أنها استطاعت أن تغطي رقعة تاريخية كبيرة من أغاني العراق، لقد كانت محوراً لنشاط كل الملحنين على مساحة الأغنية العراقية، ولم تستطع مطربة عراقية واحدة أن تنافس مائدة منذ عام 1954 حتى يومنا هذا، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الطريقة التي اقترن بها صوتها اقتراناً وثيقاً بمعايير القيمة والإنجاز.
بدأت تجربة مائدة مع أغنية "الروح محتارة والدمع يـ جارة" التي لحّنها ناظم نعيم. لم يلتفت لها إلا جمهور قليل، حتى كانت تجربتها الثانية مع أغنية "أصيحن آه والتوبة" التي لحّنها أحمد خليل لتكون منعطفاً جديداً لها، رفعَها إلى مراتب المطربات الشهيرات إلى جانب الملحن، الأمر الذي عمّق بداياتها، وانعكس إيجاباً على مسيرتها بالمجمل.
في الثامن عشر من آذار/مارس 1958، كانت مائدة نزهت أمام منعطف آخر في مسيرتها، إذ تزوجت من وديع خوندة الذي كان له بالغ الأثر عليها وعلى الموسيقى العراقية عموماً، وهو الذي لحن لناظم الغزالي. جلب وديع معه إلى بغداد عام 1957 خبرة لرؤية فكرية وجمالية عاشها في قبرص مذيعاً في إذاعة الشرق الأدنى الناطقة بالعربية، وكان ذا رؤية ثاقبة في كل موهبة فنية، بما في ذلك موهبة مائدة التي مضى يكتشف ما تنطوي عليه، ليساعدها في تهذيب أغانيها وهندسة مسيرتها الفنية. صحيح أن نتاجها بات أقل زخماً بعد زواجها بوديع، إلا أنه كان الأشد اتزاناً والأكثر رصانة.
غنّت مائدة الأغنية بالمقام العراقي حسب أصوله التاريخية، وكانت من بين الأكثر التزاماً. في عام 1964 في مهرجان الموسيقى العربية، غنى القبنجي -الرائد الأول للمقام العراقي- على مقام الحويزاوي قصيدة "لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم"، أتى بعده مطربون كثر غنوا القصيدة نفسها بالمقام نفسه، بمن فيهم الفنانون العراقيون الكبار، فتساقطوا أمام المقام كأوراق الخريف رغم جودتهم وعلوّ كعبهم، ما خلا اثنين منهم، كان الأول هو الغزالي في أغنيته "وقائلة لما أردت وداعها" من كلمات البهاء زهير، لتَليه مائدة حين غنت على اللامي"يا من هواه أعزه" لـ عبد المجيد الملا.
في الوقت الذي يمكن اعتبار ناظم الغزالي رائداً للأغنية العراقية المتّسمة بالبناء الجديد بألحان المجدّدين أمثال ناظم نعيم، وديع خوندة، وأحمد الخليل، يمكن اعتبار مائدة الصوت النسائي الأول والأكثر التزاماً بالمقام، وهي إلى جانب الغزالي خير من يعبّر عن مرحلة كانت فيها الأغنية العراقية تنم عن الكثير من الثقافة الموسيقية، فضلاً عن جمالها وذائقتها الرفيعة.
كانت أغاني نزهت تطفح بالحب، حب الحبيب، وحب الوطن، وهي آية في ملاءمتها لتطور الفن العراقي، وآية في ملاءمة حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي انعكست على العراق مليئة بروح التجديد، كما اشتهرت أغانيها بالحس الإنساني والعاطفي الممزوج بالأمل وروح التفاؤل، فكانت النصوص الغنائية التي قدمتها تعد من روائع الغناء العراقي على امتداد أكثر من نصف قرن.
كما عُرفت مائدة باختيارها النصوص الغنائية الرصينة المعبرة عن الواقع الحياتي والاجتماعي البغدادي، متميزة بجمالية كلماتها ومفرداتها الشعرية العاطفية، وقد عملت مع ألمع الملحنين والموسيقيين العراقيين أمثال طالب القره غولي، وأحمد الخليل، وعلاء كامل، ورضا علي، وعباس جميل، وفاروق هلال، وآخرين، وتخطت شهرتها الحدود المحلية، خصوصاً أنها زارت الكويت مرات عدة وسجلت هناك أغاني كثيرة مع نجوم الطرب الكويتي ملحنين وفنانين، وزادت هذه التجربة من نضوج مسيرتها الفنية. كما أنها زارت الاتحاد السوفييتي سابقاً وبقيت في موسكو فترة من الزمن.
كان من المؤسف في أواخر ثمانينيات القرن الماضي أن تعلن مائدة نزهت اعتزالها الغناء وهي في أوج عطائها لتتجه إلى العبادة إثر عودتها من أداء فريضة الحج. حاولت أن تسحب كل أشرطتها الغنائية من المكتبة الصوتية والصورية لدائرة الإذاعة والتلفزيون لكنها لم تفلح لحسن حظنا، فكان لنا أن نستمع ونستمتع بأغانيها دائماً وأبداً...