ورغم البعد الإنساني الطاغي على هذه القضية، إلا أنها قلما شهدت تقدماً في مجمل المباحثات التي جرت خلال السنوات الماضية من جنيف إلى أستانة حالياً. كما أن الأعداد المحدودة، التي تم الإفراج عنها، كانت ضمن صفقات للتبادل بين النظام وفصائل المعارضة، وليست نتيجة لمباحثات سياسية. ومرة أخرى، تثير نتائج اجتماعات أستانة الشجون بسبب نتائجها المتواضعة. ومع الدعاية الروسية التي تسبق كل جولة، تُعلق الآمال بالوصول إلى حلول ذات مغزى، لكن سرعان ما تعود خيبة الأمل لترتسم مع نهاية الجولة، بسبب تعنت النظام في هذا الملف، مع تساؤلات عن حقيقة الموقف الروسي، وهل موسكو لا تستطيع فعلاً الضغط على النظام في هذا الملف الإنساني، بينما تضغط عليه في قضايا أخرى أكثر حساسية؟
وحسب التصريحات الروسية، فقد اقترحت موسكو الإفراج بشكل متزامن بين النظام والمعارضة عن 50 معتقلاً من كل طرف حتى نهاية العام الحالي، وهو رقم متواضع ومخيب للآمال بالنظر إلى الأعداد الضخمة من المعتقلين لدى النظام، والتي تصل إلى 450 ألف معتقل، بحسب رئيس الهيئة السورية لفك الأسرى والمعتقلين، فهد الموسى. وقال الموسى، لـ"العربي الجديد"، إنه وفق هذا المعدل، أي 50 معتقلاً في كل مرة، فإن الإفراج عن كل المعتقلين يتطلب 9 آلاف جولة تفاوض، مضيفاً أن هذا يعتبر "تمييعاً لقضية المعتقلين، وتناسياً لمئات آلاف المعتقلين والمختفين قسرياً في معسكرات الاعتقال لدى نظام (بشار) الأسد وإفراغها من مضمونها الحقوقي، ونسف للقرارات الدولية الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن". وأوضح أنه ستكون في 8 ديسمبر/كانون الأول الحالي حملة عالمية للتضامن مع المعتقلين السوريين، تشارك فيها عشرات المنظمات الحقوقية، وسيكون هناك مؤتمر صحافي في مدريد.
من جانبه، قال الحقوقي السوري، أنور البني، إن "ما حصل في أستانة هو استهتار واضح بوضع المعتقلين". وأكد أن "المعتقلين ليسوا أسرى حرب لتتم المبادلة عليهم"، مشدداً على أن الكشف عن أوضاعهم وإطلاق سراحهم لا يمكن أن يكون موضوع مساومة أو مقايضة، و"لا يمكن استخدامهم رافعة سياسية لأي أحد". وأضاف البني "في حين أن أعداد المفقودين والمعتقلين تناهز 200 ألف، يصور البعض إطلاق سراح 50 أو 100 معتقل (مع أهمية إطلاق سراح أي معتقل) على أنه تقدم ونصر سياسي". وتابع "بئس هذا التقدم، وبئس هذا النصر، وبئس مثل هؤلاء السياسيين".
وحصل "العربي الجديد" على نص الدعوة لحضور فاعلية مدريد التي ينظمها "اتحاد تنسيقيات السوريين حول العالم" بالتعاون مع المنظمات الحقوقية السورية والدولية، وتتمثل في عقد مؤتمر حقوقي تحت عنوان "أنقذوا معتقلي الرأي في سورية"، وذلك "تتويجاً للحملة العالمية لإطلاق سراح المعتقلين السوريين في سجون الأسد والمنظمات الإرهابية المتطرفة والمرتبطة عضوياً بالنظام ومعسكره الهمجي، والذي سيعقد في مدريد بتاريخ 8 ديسمبر/ كانون الأول 2018، كما في عشرات العواصم والمدن في العالم وفي داخل سورية في آن واحد". وجاء في الدعوة أن "المؤتمر يهدف إلى تسليط الأضواء على هذا الملف الإنساني البالغ الخطورة، واستنهاض وحشد الرأي العام العالمي ضد الممارسات المستمرة للسلطة الفاشية القائمة في سورية، لمختلف أنواع الظلم والتعذيب والأذى والتصفية التي يتعرض لها نحو نصف مليون معتقل رأي ومواطنين أبرياء ومختفين قسرياً من رجال ونساء وأطفال، لسنوات طويلة دون محاكمات أو معرفة مصير أو أدنى الحقوق والمعاملات الإنسانية، بما في ذلك منع الزيارات عن ذويهم، بل وتجارة الابتزاز لمعرفة مصيرهم، فضلاً عن حرق الجثث وعدم تسليمها لأهلها في ظل سياسة الإنكار التي يتبعها النظام". ويشارك في هذه الفاعلية كل من اتحاد تنسيقيات السوريين حول العالم، والشبكة الحقوقية الدولية لدعم العدالة في سورية، والمركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، والهيئة السورية للعدالة والإنقاذ الوطني، والهيئة السورية لفك الأسرى والمعتقلين، ومنظمة CAAFI الدولية لحقوق الإنسان، ومنظمة هيومن رايتس ووتش، والمنظمة الدولية لإغاثة الطفل.
وكان رئيس اللجنة القانونية في وفد أستانة، ياسر فرحان، قد قال، لـ"العربي الجديد"، إن الجانب الروسي طرح إفراج متزامن عن 50 معتقلاً لدى كل طرف حتى نهاية العام الحالي. وأضاف أن "المعارضة تدرك ضآلة هذا الرقم قياساً لعدد المعتقلين في سجون النظام، لكن الهدف هو إبقاء الملف حياً، بهدف تثبيت المبدأ المتفق عليه في الاجتماعات السابقة، وهو الإفراج الكامل عن جميع المحتجزين"، مؤكداً رفض المعارضة أن يكون هناك تماثل في عدد المفرج عنهم، لأن ما لدى المعارضة من معتقلين للنظام محدود جداً، بينما لدى النظام مئات آلاف المعتقلين، جلهم من المدنيين. وأشار إلى أن هذا كان هدف الإفراج المتزامن المحدود، الذي جرى قبل أيام في حلب بين النظام والمعارضة، أي إبقاء الملف حياً، والعمل على تنشيطه بكل الوسائل المتاحة.
غير أن الطرح الروسي بالإفراج المحدود عن عدد متماثل من المعتقلين أثار مخاوف واستياء أوساط شعبية عدة، باعتباره يرمي فيما يبدو إلى تبادل الأسرى العسكريين فقط بين النظام والفصائل، ولا يشمل المعتقلين المدنيين الذين يموت يومياً الكثير منهم تحت التعذيب، وآخرهم الناشطتان فاتن رجب وليلى شويكاني. وطالب المرصد السوري لحقوق الإنسان، في بيان أمس الجمعة، بالكشف "عن مصير عشرات آلاف المفقودين، وتسليم جثث من جرى قتلهم تحت التعذيب إلى ذويهم، وكشف مصير معتقلي الرأي والضمير، ومن أبرزهم خليل معتوق وعبد العزيز الخيِّر وحسين عيسو وعشرات المثقفين والمدافعين عن حرية الرأي وعشرات الآلاف الذين يشاركونهم الظروف ذاتها والمصير نفسه". وحسب "المرصد" فإن هناك نحو 200 ألف شخص معتقلون لدى النظام السوري، توفي منهم تحت التعذيب 16065 مدنياً موثقين بالأسماء، منهم 15876 رجلاً وشاباً، و125 طفلاً دون سن الثامنة عشر، و64 سيدة فوق سن 18، وذلك من أصل 104 آلاف، علم المرصد السوري لحقوق الإنسان أنهم فارقوا الحياة في سجون النظام. وأوضح أنه جرى تصفية أكثر من 83 في المائة منهم داخل المعتقلات بين مايو/ أيار 2013 وأكتوبر/ تشرين الأول 2015، فيما أكدت المصادر أن ما يزيد عن 30 ألف معتقل منهم قتلوا في سجن صيدنايا، ثم في إدارة الاستخبارات الجوية التي يديرها جميل الحسن.
وكان النظام قد عمد إلى تسليم أمانات السجل المدني في عدة مناطق سورية، ضمنها مناطق في الغوطة الغربية والقلمون وحلب والحسكة وريف إدلب الجنوبي ودمشق، أسماء معتقلين فارقوا الحياة في معتقلاته بين عامي 2011 و2014 نتيجة ما قال إنها أمراض وأزمات قلبية، لكن في الواقع كان ذلك نتيجة عمليات التعذيب والتنكيل والتجويع والأمراض. وجرى تسليم قوائم بنحو 4 آلاف اسم إلى أمانات السجل المدني، لتثبيت أسمائهم في قوائم الوفيات. وطالب محققو جرائم الحرب بالأمم المتحدة، قبل يومين، النظام السوري بضرورة إبلاغ أسر من اختفوا وهم قيد الاحتجاز، بما حل بأقاربهم وتقديم سجلات طبية ورفات من توفوا أو أعدموا أثناء احتجازهم. وقالت اللجنة الدولية للتحقيق "من المعتقد أن أغلب الوفيات قيد الاعتقال وقعت في مراكز اعتقال تديرها أجهزة الاستخبارات أو الجيش السوري. لكن اللجنة لم توثق أي واقعة جرى فيها تسليم الجثامين أو المتعلقات الشخصية للمتوفين". وتابعت اللجنة المستقلة، التي يرأسها باولو بينيرو، في اجتماعها الأربعاء الماضي، أنه في كل الحالات تقريباً أشارت شهادات وفاة السجناء التي سلمت لأسرهم، إلى أن سبب الوفاة هو "أزمة قلبية" أو "جلطة". وأضافت "بعض الأفراد من المنطقة الجغرافية ذاتها توفوا في نفس التاريخ، فيما يحتمل أن يشير ذلك إلى إعدام جماعي". وفي أغلب الحالات كان مكان الوفاة المذكور هو مستشفى تشرين العسكري أو مستشفى المجتهد وكلاهما يقع قرب دمشق، لكن لا يذكر اسم مركز الاعتقال.
ورأى الباحث شادي العبدالله أن روسيا، وهي تحاول إعادة تعويم النظام السوري وإكسابه بعض الشرعية الدولية، تسعى إلى طي الملفات التي تدينه بطريقة أو أخرى، وجاء إبلاغ أسر الضحايا بوفاة أبنائها في السجون نتيجة الأمراض كخطوة في هذا الاتجاه. وأكد العبدالله أنه "لا روسيا ولا النظام يرغبان في حل حقيقي لقضية المعتقلين، لأن فتح هذا الموضوع قد يعقبه مطالب بالتفتيش والتحقق من المنظمات الدولية في ظروف الاعتقال ووفاة المعتقلين، وهذا سيقود إلى إدانة مؤكدة للنظام السوري، وقد يتبع ذلك مطالب بمحاكمات دولية للعديد من المسؤولين في النظام، بمن فيهم رئيس النظام".