مأساة مصر بين برلمانيْن

12 يناير 2016
+ الخط -
بينما كانت الأنظار تتجه لمتابعة جلسة افتتاح برلمان الجنرالات في مصر، والذي جرت هندسة قوائمه واختيار أعضائه في مبنى المخابرات العامة المصرية، حسب الإفادة الأخيرة للدكتور حازم عبدالعظيم، أحد المحسوبين على عبد الفتاح السيسي، كانت جلسة أخرى تجري أيضاً، على الهواء مباشرة، من إسطنبول، لما قيل إنه "البرلمان الشرعي" في المنفى. لا يترك "الإخوان المسلمون" فرصة لكشف مهازل النظام الحالي، وفضحه أمام الرأي العام، إلا وأفسدوها وأفقدوها زخمها، إلى درجةٍ بات المرء يشك فيها أن هؤلاء، إما متآمرون على أنفسهم، أو أنهم مغيّبون عن الواقع على أحسن تقدير.
لم يعد في مصر سوى الهزل الذي لا يمكن للمرء أن يأخذه بجدية، وإلا فقد ما تبقى له من العقل. فمن يتابع الجلسة الأولى لبرلمان الجنرالات التي انعقدت، أول من أمس الأحد (10 يناير/كانون ثاني)، يكتشف حجم المهزلة السياسية الدائرة الآن في البلاد، وهو البرلمان الذي نتج عن انتخاباتٍ هزيلةٍ قاطعها غالبية المصريين، وهو ما يشكك في شرعية هذا البرلمان وتمثيله المواطنين. فمن نائب "بلطجي" يرفض أن يقسم اليمين البرلمانية، ويتعهد باحترام الدستور كونه يوقر في ديباجته ثورة الخامس والعشرين من يناير، ولم يتراجع إلا تحت ضغط زملائه، إلى نائب آخر مشغول بالتقاط صورة "سيلفي" مع نائبة تجلس بجواره، إلى نائب ثالث يسب ويشتم لائحة البرلمان، ويتهكم على واضعيها، إلى مطالبات نواب بتوفير الأكل والشراب للنواب والموظفين.
وفي عالم آخر موازٍ، يبعد آلاف الكيلومترات عن مصر، يجلس رئيس "البرلمان الشرعي" الافتراضي، وأمامه عضوان، يتلو عليهما بياناً يتعهد فيه، وهو الذي لا يملك أي قوة حقيقية لتنفيذ ذلك، برفض كل القرارات والاتفاقات والمعاهدات التي عقدها النظام الحالي. وهو البرلمان الذي يتكون من أعضاء سابقين في برلمان 2012، الذي تم حله بقرار المحكمة الدستورية العليا في يونيو/حزيران 2012، وآخرين كانوا أعضاء في مجلس الشوري الذي تم حله عشية انقلاب الثالث من يوليو.

ومن المفارقات أن في مصر الآن برلمانيْن، لا يعبر أي منهما عن الواقع. صحيح أن برلمان "الإخوان المسلمين" جاء من خلال انتخابات حقيقية، وتم حله في إطار صراع سياسي بين "الإخوان" والعسكر، لكن الصحيح، أيضاً، أن مياهاً كثيرة جرت في بحر السياسة منذ ذلك الوقت، بشكل يجعل إحياء مثل هذا البرلمان أشبه بأحلام اليقظة ومدعاة للسخرية. بل الأكثر من ذلك أن وجود هذين البرلمانيْن، بهيئتهما وتكوينهما الحالي، إنما يعكس حجم المأزق الشديد الذي تعيشه البلاد، والمستمر، منذ أكثر من ثلاثة أعوام، وهو مأزق الانقسام والاستقطاب الحاد. فكلا البرلمانيْن لا يأخذ الآخر بجدية، وكلاهما يتنبى خطاباً انتقامياً تجاه الآخر، وكلاهما يريد فرض كلمته ورؤيته على قطاعات مجتمعية واسعة ترفضهما. ويجادل المنتمون لكلا البرلمانين أنهم يعملون لمصلحة الوطن، وأنهم يحترمون الدستور والقانون، وذلك مثلما جاء في نص اليمين التي حلفوها بعد انتخابهم، لكن أفعالهم تؤكد أنهم يعملون لصالح أنفسهم، ومن أجل السلطة فقط. بل الأطرف من ذلك، أن كلا الطرفين يدّعى تمثيل الشعب المصري، في حين أنه أبعد ما يكون عن ذلك.
يسير برلمان الجنرالات على كتالوغ برلمانات حسني مبارك، وغيره من البرلمانات السلطوية. وهو برلمان لا يُتوقع منه أن يقوم بأي دور رقابي حقيقي على المؤسسة التنفيذية، وخصوصاً الرئاسة. وإنما سيكون تابعاً لها ومؤتمراً بأمرها ومدافعاً عنها في مفارقة غريبة. في الوقت الذي يتبع فيه "برلمان إسطنبول" الإخوان المسلمين، ويتبنى مطالبهم، خصوصاً مطلب عودة محمد مرسي إلى الرئاسة، أو عودة الشرعية كما يسمونها. لا يريد "الإخوان" وبرلمانهم أن يعترفوا، أن الأزمة في مصر أكبر بكثير من مجرد عودة رئيس ضعيف، كان عليه، ولا يزال، خلاف كبير، أو انعقاد برلمان يقبع كثيرون من أعضائه في السجون أو تم قتلهم، وأن المسألة لم تعد تتعلق بالتخلص ممن انقلب على سلطتهم الفاشلة، وأننا بتنا إزاء نظام سلطوي متوحش، يتجاوز في فعله وإجرامه ما يتطلب ما هو أكثر من مجرد جلسة برلمانية، تُعقد في فندق على الجانب الآخر من المتوسط. ولا يدرك قادة البرلمان الموازي أن التخلص من هذا النظام لن تتم من خلال خطاب سياسي غارق في الخيال، وبعيد تماماً عن الواقع الذي أصبح أكثر صعوبة وتعقيداً.
لا تتلخص مأساة مصر الحالية في وجود برلمانيْن ديكورييْن، لا يعبران سوى عن أصحابهما ومصالحهما، وإنما بالأساس في وجود طائفتين (العسكر والإخوان)، وسلطويتين (عسكرية ودينية)، ورؤيتين للكون متناقضتين تماماً، بينما يقف الشعب بينهما حائراً، ولسان حاله يقول: من أنتم؟!

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".