يبدو توصيف المشهد السياسي التونسي من خلال مواقف الحكومة التونسية خلال الأيام الأخيرة واضحاً وبسيطاً، ويعكس حالة من العجز الصريح والمعلن أمام طلبات المحتجين الأخيرة. لم يخفِ رئيس الحكومة، الحبيب الصيد، أمام نواب الشعب في اليومين الماضيين، أن حكومته قدّمت كل ما لديها تقريباً، وأنه من غير الممكن إيجاد حلول للجميع في نفس الوقت. وقد يكون هذا الموقف عقلانياً من الناحية الاقتصادية، غير أنه في المقابل يبقى غير مفهوم سياسياً، لأن الحكومات العاجزة أمام مشاكل شعوبها، تذهب في الأنظمة الديمقراطية إلى الاستقالة.
غير أن الصيد، لم يكتفِ بالتصريح أمام النواب، بل ذهب إلى أكثر من ذلك عندما طالبهم بحلول واقتراحات لحلّ مشكلة البطالة. ويبدو الأمر غريباً سياسياً، رغم دلالاته الهامة وانعكاساته الممكنة، ويعود أيضاً إلى طرح سؤال جوهري حول النظام السياسي في تونس، ودور البرلمان في تحديد السياسات وحدود تقاطعه مع السلطة التنفيذية.
ولكن الحقيقة التي يعرفها الجميع في تونس، هي أن الحكومات المتعاقبة، بما فيها حكومة الصيد، فشلت في استنباط حلول لمعضلة البطالة والتفاوت الجهوي، مطلبي الثورة الأساسيين، وعجزت عن إطلاق مبادرات لحلّها ولو جزئياً، بدليل الارتفاع المتواصل لمؤشر البطالة. كما فشلت الحكومة في صياغة خطاب سياسي، يُمكن أن يعيد الأمل للناس، والأهم أنها بخطابها الحالي، تؤكد أن الوعود الانتخابية لم يتحقق منها شيء في الوقت الراهن، والأخطر أنها قد لا تتحقّق أيضاً في المستقبل.
ويؤكد النائب عن "الجبهة الشعبية" اليسارية المعارضة، فتحي الشامخي، لـ"العرب الجديد"، أنه "لم يسمع من الحكومة ما يطمئن الشعب". كما يُشدّد النائب عن "التيار الديمقراطي"، المعارض أيضاً، غازي الشواشي، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أنه "لا وجود لرؤية أو لبرنامج إصلاح هيكلي للحكومة، وهذا جلي منذ قانون المالية الأخير".
اقرأ أيضاً: القصرين: هل هي انتفاضة مهمشين جديدة في تونس؟
ولكن الانتقادات لم تأتِ من المعارضة فحسب، بل امتدت أيضاً إلى نواب الائتلاف الحاكم، بعد تأكيد النائب عن "حركة النهضة"، وليد البناني، أن "مقترحات الحكومة لم تُقبل في جهة القصرين". بينما يدعو زميله في الحزب، فتحي العيادي، من جهته، في تصريحٍ لـ"العربي الجديد"، إلى "التحرر من المقاربات الكلاسيكية الساكنة". ويرى النائب عن حركة "نداء تونس"، حسن العماري، أنه "لا بدّ من التخلي عن السياسات البالية والبيروقراطية الزائدة وضرورة انطلاق العمل بالمشاريع المدروسة في كل محافظة".
ويقرّ الصيد نفسه، أن "الإجراءات التي اقترحتها حكومته تبقى منقوصة، وهي بالفعل كذلك، لأنها جاءت تحت وطأة الاحتجاجات التي عمّت البلاد ولم تستبقها، لأنها كانت منتظرة، باعتبار الغليان الذي انطلق منذ أشهر في هذه المناطق".
ويكشف الصيد عن أنه "زار عدداً من المحافظات، وقدّم حلولاً خاصة بكل جهة على حدة"، ولكن النائب، عمار عمروسية، عن "الجبهة الشعبية"، يُشدّد على أن "الاحتجاجات انطلقت تحديداً من الجهات التي زارها الوفد الحكومي"، مما يعني أنها إما لم تكن كافية ومقنعة، أو لم تُلبِّ مطالب المحتجين. وفي كلتا الحالتين تعكس فشلاً سياسياً بات ملازماً لحكومة الصيد.
وعلى الرغم من أن رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، والصيد، وزعيم "حركة النهضة"، راشد الغنوشي، وغيرهم، أكدوا أن "الدولة متينة وأن هذه الأعمال لن تهددها، وأن الحكومة لن تسقط بمجرد قيام أعمال عنف"، فإن ما لم يُذكر أيضاً، هو أن المعارضة داخل البرلمان غير قادرة على إسقاط الحكومة ديمقراطياً، ولن تُسقطها في الشارع.
غير أن السؤال الحقيقي، الذي لم يطرح صراحة، هو إلى أي حدّ يُمكن أن يطول صبر الأحزاب التي تدعم الصيد، وإلى أي حدّ يُمكن أن يصل هذا الدعم، أمام المتغيرات الحزبية والبرلمانية، بعد تراجع "نداء تونس" وانقساماته المتعددة التي تُهدّد كيانه، وتُهدّد بتغيير المشهد السياسي بالكامل؟ وهل يُمكن أن يدوم هذا الصبر حتى انعقاد مؤتمرات هذه الأحزاب، والانتخابات البلدية المقبلة نهاية العام الحالي؟
ولا تعني كل هذه الأسئلة، أن مستقبل الصيد مهدّد بأي شكل في الوقت الراهن، فالسبسي والغنوشي لن يرضخا للضغط والتهديدات، ولن يُغيّرا الصيد تحت وطأتها، لكن رئيس الحكومة يجد نفسه في وضع صعب للغاية، رغم أنه لا يزال يملك زمام المبادرة بيديه. ولكنه سيكون محتاجاً إلى تغيير خطابه السياسي، وطرح أفكار جديدة لحلّ المشكلات التونسية الكبرى، كالتشغيل والتنمية الجهوية سريعاً.
اقرأ أيضاً: مسكّنات وقتيّة.. شباب تونس لن يرضوا بالحلول السابقة