مآدب ديبلوماسية بطعم البارود والأشلاء

20 يوليو 2014

تظاهرات في العاصمة تونس لأجل غزّة(18يوليو/2014/فرانس برس)

+ الخط -

كما العادة، نظم سفراء في تونس، بمناسبة شهر رمضان المبارك، مآدب رمضانية، دعي إليها رموز الطبقة السياسية التونسية، من رؤساء أحزاب وقيادات الرأي العام ورجال أعمال وإعلام، وغيرها من الوجوه المتنفذة التي لا يعرف، حتى التونسيون، مصادر نفوذهم ومجالات استثمارهم. كانت هي عادة قبل الثورة، ولكن لم تكن تأخذ من اهتمامات الرأي العام، لأنها تجري بعيداً عن الكاميرات، وفي أروقة السفارات المحروسة. ومع ذلك، كانت تسريبات منفلتة بين حين وآخر تحرج بعضهم في مناخ من الريبة والشك السائدين آنذاك.
الآن، وبعد الثورة، أصبحت هذه المناسبات واللقاءات، حتى الخاصة منها، جزءاً من الرأسمال العلائقي الذي يتباهى به بعضهم، ويعده مكسباً سياسياً، لتعزيز مواقفه ووجاهته في المعارك والتجاذبات السياسية الداخلية. إنها مؤشر عن درجة الرضا الأجنبي عن الفرقاء السياسيين، ما جعل بعضهم يعتمدها مؤشراً، يحدد ما ستؤول إليه الأمور، على إثر الأزمات الحادة التي مرت بها البلاد.
في الأيام القليلة الماضية، كان للطبقة السياسية موعدان مع تلك اللقاءات، الأولى مع السفير الأميركي، والثانية مع السفير الفرنسي، بمناسبة إحياء بلده ذكرى عيدها الوطني. ليس من المصادفة أن يحرص الاثنان، وهما يمثلان البلدين الأكثر نفوذاً في تونس بعد الثورة، وفي أقل من أسبوع، على دعوة جل أطياف الطبقة التونسية. فلا يخلو السياق من الدلالات أن هذه المآدب تنتظم في سياق متفجر ودقيق، على أكثر من صعيد، خصوصاً في أفق انتخاباتٍ، باتت تحوم شكوك حول إجرائها أصلاً.

تكثفت، وبشكل غير مسبوق هذه اللقاءات، وربما أصبحت علنيتها، منذ أشهر، مثيرة لمزيد من الشهية. يحصل هذا الانطباع في ظل تسريبات عن قلق متنام لدى الحكومة، وحتى مؤسسة رئاسة الجمهورية، من فوضى العمل الديبلوماسي الموازي، والذي قد لا ينسجم، أحيانا كثيرة، مع التوجهات الرسمية. ويبدو أن المجال الديبلوماسي، في السنتين الأخيرتين، تمت بشكل كبير خصخصته والتفويت فيه بشكل متنامٍ، إلى الأحزاب الحاكمة والمعارضة، بل وصل الأمر إلى شخصياتٍ لا علاقة لها بالحكم أو السلطة، بشكل مباشر، أن تتولى تلك المهام.


في الصورة التي يحرص الجميع على التقاطها، تبدو الابتسامات عريضة، في حضرة السفراء، وهي صورة تجمع ألد الخصوم الذين سيبدو من الجنون تصورهم يجتمعون خارج تلك المقامات. يلتقون تحت سقف واحد ليبتسموا، ولكن، يخسر الشعب ابتساماتهم الديبلوماسية، حالما يهم أصحابها بمغادرة باب السفارة.
أنهك التفويت لهؤلاء الفاعلين الديبلوماسيين الجدد الديبلوماسية الرسمية، وجعلها في أكثر من مجال "شاهد ما شافش حاجة"، مضطرة إلى غض النظر أو اقتفاء الأثر في اتباعيةٍ لا تليق بدبلوماسية ثورةٍ، يفترض أن ترسم خطها الديبلوماسي باستقلالية وجدارة.

لا أحد يستطيع أن ينكر حقيقة أن السفارات كانت حاضرة بكثافة في جميع المآزق السياسية الداخلية الكبرى التي حدثت، في أوقات حاسمة، كادت البلاد أن تتدحرج إلى أخاديد الحرب الأهلية. يختار الديبلوماسيون الوقت الملائم للتدخل، ويتجنبون، في حكمةٍ بالغةٍ، البدايات ليقطفوا الثمار الطازجة، من دون عناء، أتعاب الجني، خصوصاً إذا كانت الأشجار مشوكة والتضاريس وعرة. كان للقاءات مع السفراء على إثر الاغتيالات والحوار الوطني ومشوار صيغة الدستور، وجل "الخنقات" السياسية، دور حاسم في حلحلة تلك الانسدادات، بقطع النظر عن طبيعتها. ولا ينسى التونسيون تلك "المعجزة" التي حدثت على أيادي الديبلوماسيين الأجانب، عند القبول بمهدي جمعة رئيساً للحكومة، في الدقائق الأخيرة من التوقيت البديل، قبل المرور إلى الركلات الترجيحية التي كانت ستكون فيها الكرة من لهب.

كانت "مصادفات التسريبات" المرتبة بعناية فائقة، وحدها التي كشفت مأدبة الفطور التي جمعت السفير الألماني السابق، يانس بلونتر، مع جمعة، وكان، آنذاك، وزير الصناعة، في إحدى ولايات الشمال التونسي، حول طبق شواء من لحم الضأن الذي عرفت به منطقة باجة، أما السفير فتم، بعد أسابيع قليلة من ذلك الفطور، تعيينه مديراً لديوان وزير الخارجية الألماني. هل كان ذلك الطبق وصفة شافية للوعكة السياسية التي أصابت البلاد وسبباً في صعود الرجلين إلى مناصب عليا؟ في كل الحالات، لم تكن "ديبلوماسية المشاوي" تهمة باطلة حتى ترد.

لا شك أن تلك كانت مكافأةً لا تشمل الجهد الاستثنائي للسفير في حل الأزمة التونسية فحسب، بل ومجازاة على خدمة سياسة بلاده الخارجية، وارتفاع أسهم تأثيرها في إحدى البلدان المرشحة لقيادة ما تبقى من الربيع العربي. وينظر المزاج العام للتونسيين بتقدير كثير لألمانيا، ويجعلها بعضهم حليفا لتونس، على خلاف فرنسا التي صدمت التونسيين، أكثر من مرة، سواء تعلق الأمر بالشأن السياسي التونسي أو العربي، لعل أهمها الهدية التي قدمها الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، لقادة الكيان الصهيوني، وهم ينفذون مجزرتهم الشنيعة.

من تسريبات استبشر لها تونسيون كثيرون اعتزام الطبقة السياسية التونسية مقاطعة احتفالات السفارة الفرنسية بعيدها الوطني، في 14 يوليو/تموز، وهي مناسبةٌ تتخذ بعداً استثنائياً خاصاً، هذه السنة، في تزامن مع إحياء الذكرى المائة للحرب العالمية الأولى، بمشاركة أكثر من ثمانين دولة.

كانت تلك المشاعر، في جزء منها، إسقاطاً سياسياً لرغبات التونسيين، والثأر لأنفسهم مما ارتكبته فرنسا في حقهم، طوال سنوات حكم بن علي، ولعلهم يتذكرون ما قاله الرئيس الأسبق، جاك شيراك، إثر زيارته أواخر سنة 2003، وهي فترة عرفت في تونس موجة من الاعتداءات الشرسة على الحريات والحقوق والنشطاء الحقوقيين وإضرابات الجوع.  استكثر فيها شيراك، آنذاك، نضالاتهم، ودعاهم إلى تذكر أن أول تلك الحقوق الحق في المأكل، ما أثار عاصفة من ردود الأفعال المنددة، لعل أهمها الصادرة عن الفيديرالية الدولية لحقوق الإنسان، و"مراسلون بلا حدود".

غير أن المواقف الفرنسية زادت صلفاً، حينما هبت فرنسا الرسمية لنجدة بن علي، وهو يترنح، في ساعاته الأخيرة، بشحن أسلحة لقمع المتظاهرين، كلفت وزيرة الدفاع آنذاك منصبها، وفضحت صفقة من الفساد. ولم تعتبر فرنسا من أخطاء الماضي، وظلت تتدخل، أكثر من مرة، لنصرة فريق على فريق، وأربكت وخنقت تجربةً، تمردت على الثوابت الفرنسية.

وتعكس الدعوة إلى مقاطعة احتفالات السفارة الفرنسية بالعيد الوطني لبلادها رغبة التونسيين في الغضب من انحياز فرنسا السافر للكيان الصهيوني. وعلى غير العادة، لم تتسرب صور ذات شأن عن الاحتفال، ولا عمن حضروا، فغابت الصور عن مواقع التواصل الاجتماعي، ولم يعثر متتبعو تلك الصفحات على مبتغاهم، ما يؤكد الحرج الذي عاناه، ولم يستطع دفعه من حضر. لم تجد دعوة المقاطعة صداها التام، وظلت جزئية، إذ تعلم أحزاب وشخصيات سياسية تونسية عديدة أن فرنسا ما زالت تتحكم من وراء الستار في حضور اللاعبين السياسيين.

وعلى الرغم من أنها ليست المدرب، إلا أنها تظل مستشاراً فنياً، يحدد في الكواليس تشكيلة اللاعبين الأساسيين، وربما حتى البدلاء في المباراة القادمة في نهاية هذه السنة.

في تقاطع مع تلك المأدبة، عمدت قيادات سياسية يسارية وعروبية، ولفيف من رموز المجتمع المدني والمثقفين والمناضلين من انتماءات مختلفة، إلى التجمع ليلاً أمام السفارة الفرنسية في الشارع الشهير الذي شهد سقوط الطاغية بن علي، للتنديد بالموقف الفرنسي ونصرة غزة الشهيدة. كان ذلك في انسجام تام مع العاطفة الشعبية التي عبرت عنها تظاهرات أخرى في مناطق عديدة في تونس. وتظل النشازات الأخرى بلا معنى في حالة شعبية مناصرة لغزة، على الرغم من الدماء السائلة بغزارة من الجرح الوطني، إثر تتالي استشهاد جنود تونس البواسل في معركة عادلة ومنصورة مع الإرهاب.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.