04 نوفمبر 2024
لي رأيٌ ليس عامّا
عبر عقود، سادت عربيا نكتة شعبية بصيغ مختلفة، فحواها أن مواطناً عربياً سُئل عن رأيه في مسألةٍ راهنةٍ، فردَّ متسائلا: وماذا تعني كلمة رأي؟ كان المواطن العربي يدرك أن لا رأي له، أو أنّ رأيه لا يُقدّم ولا يُؤخّر، وربما كان تَعْويلُه على الدعاء، وسيلةً لتلطّف السماء، وجلب بركات الحظ، أكثر بكثير من تصديقه أن رأيا له، أو استغاثةً منه، قد يغيران مشيئة حاكم عربي يمشي مثله على الأرض.
يتكون الرأي العام، بوصفه ظاهرة اجتماعية، تلقائيا عبر تفاعل مجموعة الآراء المختلفة السائدة بين الأفراد لتتبلور في موقف محدد. ولا يقف الرأي العام عند ردود الفعل الجماهيرية الآنية والعفوية التي ترتكز على العرف والتقاليد، بل يتجاوزها بوصفه حكما عقليا يصدره الوعي الجمعي لجمهور يتقاسم أفرادُه توجهاتٍ معينة، ومصالح مشتركة، إزاء المسألة المطروحة.
يحتاج الرأي العام تفاعلا عبر مساحةٍ زمنية كافية، فحين تظهر مشكلةٌ ما تتصل برغبات الجمهور وحاجاته، وتتطلب قرارا جماعيا، تحاول شخصياتٌ قياديةٌ، مثقفون، ووسائل إعلام، تحديدها واقتراح بعض الحلول، ويدلي الاختصاصيون والخبراء بدلوهم، فيقدمون المعلومات والبيانات حولها، ليدور نقاشٌ حر ومفتوح، تمتزج معه ردود الأفعال والعواطف والأفكار، وتتصادم المصالح، وتصدر أحكام مختلفة. وحصيلة نهائية لهذه العلمية، تستقرّ غالبية الآراء باتجاه معين، يمكن قياسه استطلاع أو استفتاء.. وغيرها.
مع فلسفة الأنوار الأوروبية، بدأ تبلور مفهوم حول "الرأي العام"، فتحدث مونتسيكيو عن "العقل العام"، ونظّر روسو لـ"الإرادة العامة". وكرّست التحولات الاجتماعية السياسية والاقتصادية اللاحقة المفهوم. رسالة فولتير في التسامح دفاعا عن كالاس، وبيان المثقفين تضامنا مع إميل زولا الذي سجن دفاعا عن درايفوس.. وغيرها، هي أحداث أصبحت قضايا رأي عام سيصبح موجّها أساسيا للسياسات الاجتماعية المختلفة للحكومات والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني. ومن خلاله، اكتسب المثقف سلطته، ومارسها أيضا.
في عالمنا العربي، لم تتوفر اشتراطات حقيقية لتكوّن الرأي العام، فحلت محله بروباغاندا السلطة السياسية، ودائرتها الضيقة من المنتفعين المتحالفين معها، مثقفين، إعلاميين، رجال أعمال، وسياسيين. تلوّنت هذه البروباغاندا بألوان اللحظات المختلفة سياسيا واقتصاديا، وأنتجت شعارات وهمية وإيهامية في مراحل مختلفة. ومع انهيار الدولة اليوم، تسود بروباغاندا الطائفة، والقبيلة، وزعماء المليشيات.
عمل استبداد النخب الحاكمة على جعل رأي الأغلبية الذي يفترض أن يسود اتجاهات الرأي العام مجرد رأي عام "باطن"، لم يتكوّن إيجابا، نتيجة عملية تبادل الآراء والنقاش الإيجابي والفاعل، بل سلبا، نتيجة خشية الأفراد من التعبير عن آرائهم واتجاهاتهم وحاجاتهم، وحصيلةً لسلسلة ردود الفعل المتراكمة عاطفيا، فنقاش الغرف المُغلقة يُحرَم من المعلومات والمعطيات الكافية، ومن إثراء مثقفين وخبراء وأصحاب الاختصاص.
مع إحكام القبضة الأمنية والعسكرية، واحتكار السلطة السياسية المجال العام، تضييقا على حرية التعبير، وتعديا مستمرا على حرية الصحافة ووسائل الإعلام، أصيبت الحياة السياسية العربية بالشلل. وفي غياب رأيٍ عام، وبالإضافة إلى قصورها الذاتي الفكري والتنظيمي، افتقدت حركات المعارضة التقليدية قاعدتها الجماهيرية التي كونتها في مرحلة المطالبة بالاستقلال، وفي أثناء التوجهات الليبرالية ما بعد الاستقلال قصيرة الأمد، ولجأ بعضها، في غير مرة، إلى سياسة المساومة، ووجد بعضها الآخر في الاستقواء بالآخر سبيلا إلى مواجهة الطغمة الحاكمة، وسياساتها الأمنية. وحين تأكد لبعضهم منها اضمحلاله اجتماعيا وسياسيا، تماهى مع سياسات النظام الحاكم.
لم تستند الحركات الإسلامية على الرأي العام، بل على الفضاء الدعوي التي أرادت سياسات الأنظمة الحاكمة حصرها فيه، لتصطدم لاحقا مع سياسات تلك الأنظمة في دوراتٍ من العنف والعنف المضاد، زادت الطين بِلَّة، قبل أن تقبل اللعبة الديمقراطية التي تنتهي عند صناديق الاقتراع. أما لعبة الجمع بين "مكاسب السلطة" و"شرف المعارضة"، فحرمت مثقفين من صناعة رأي عام يتكئون عليه، لممارسة أدوارهم الاجتماعية.
خرقت وسائل التواصل الاجتماعي الرقابة الصارمة، وأحدثت انزياحا في مفهوم الرأي العام، وفرزت نوعا جديدا من المعارضة، امتدّت إلى شرائح واسعة، ولم تعد تقتصر على جماعاتٍ ثانويةٍ تقليدية. تراجعت تلك النُكتة المذكورة، مع شعور المواطن العربي أن رأيا يعبر عنه بات ممكنا، إلا أن دور هذه الوسائل وقدرتها على تكوين الرأي العام ما زال موضع شك.
حجم الهوة بين الثقافتين، الشعبية والنُخبية، لم يتح قدرةً على تحويل كم المعلومات التي يراكمها هذا العالم الافتراضي إلى معرفة، ولم يتوفر جهد عقلي تركيبي يفضي إلى وعيٍ يدرك العام في الخاص، سيما مع كثافة المسائل الجزئية المطروحة للنقاش، والتي ما أن يبدأ حوار بشأن أحدها، حتى تطرح نفسها مسائل أخرى، من دون فرصة لتعميق الحوار واستخلاص النتائج. وكشفت إخفاقات الربيع العربي حدود التعويل على منصات التواصل الاجتماعي.
لا ينفصل الحوار الفاعل والمنتج في العالم الافتراضي عن امتلاك القدرة على الحكم وإبداء الرأي الذي يوفرهما حدٌّ أدنى من المستوى الثقافي، ونسبة أمية متدنية، وكذلك تقاربٌ في المستوى الاجتماعي للأفراد، وقدر واسع من الحريات المدنية والسياسية المؤسسة في العالم
الواقعي. أما الانقسامات العرقية والمذهبية، ورسوخ معتقدات دينية، وسياسية، واقتصادية، والتي تقاوم أي مباشرة دعائية تتعارض معها، فتؤثر سلبا على تشكّل الرأي العام هنا وهناك. لذا لم تشكّل هذه المجتمعات الموازية مجتمعاتٍ بديلة، واستمرت تعكس الانقسامات المذهبية والدينية، والاستقطابات السياسية الواقعية.
في مجتمعات الحداثة وما بعدها، سبق تَكوّن الرأي العام المجتمع الافتراضي. أما في المجتمعات التقليدية، فعلى الرغم من بوادر إيجابية، ما زالت العوالم الافتراضية، حتى الآن على الأقل، عاجزةً عن إنتاج رأي عام لم تتوفر اشتراطاته مسبقا في المجتمع الواقعي.
قد نعيش طويلا في مجتمع افتراضي، تلوذ به نرجسيتنا، ما أن نبصر نور الصباح، نقول فيه، بكل جرأة ممكنةٍ، ما نريد، بأسمائنا الصريحة، أو المستعارة (غالبا)، لنصطدم طوال اليوم بحقيقة مجتمعاتنا الفعلية التي تعاني بطئا في الاتصال، وتشوها في التواصل، وتئن تحت كل أنواع "الهاكر" الاجتماعي، السياسي والأخلاقي والطائفي، الذي لا يجدي معه نفعا النكز، واللايك، والكومنت.
لقد أصبح للمواطن رأي من دون أن يتوفر رأي عام، وكأنّ نكتة اليوم تقول: أنا أرى لكن نحن لا.
يتكون الرأي العام، بوصفه ظاهرة اجتماعية، تلقائيا عبر تفاعل مجموعة الآراء المختلفة السائدة بين الأفراد لتتبلور في موقف محدد. ولا يقف الرأي العام عند ردود الفعل الجماهيرية الآنية والعفوية التي ترتكز على العرف والتقاليد، بل يتجاوزها بوصفه حكما عقليا يصدره الوعي الجمعي لجمهور يتقاسم أفرادُه توجهاتٍ معينة، ومصالح مشتركة، إزاء المسألة المطروحة.
يحتاج الرأي العام تفاعلا عبر مساحةٍ زمنية كافية، فحين تظهر مشكلةٌ ما تتصل برغبات الجمهور وحاجاته، وتتطلب قرارا جماعيا، تحاول شخصياتٌ قياديةٌ، مثقفون، ووسائل إعلام، تحديدها واقتراح بعض الحلول، ويدلي الاختصاصيون والخبراء بدلوهم، فيقدمون المعلومات والبيانات حولها، ليدور نقاشٌ حر ومفتوح، تمتزج معه ردود الأفعال والعواطف والأفكار، وتتصادم المصالح، وتصدر أحكام مختلفة. وحصيلة نهائية لهذه العلمية، تستقرّ غالبية الآراء باتجاه معين، يمكن قياسه استطلاع أو استفتاء.. وغيرها.
مع فلسفة الأنوار الأوروبية، بدأ تبلور مفهوم حول "الرأي العام"، فتحدث مونتسيكيو عن "العقل العام"، ونظّر روسو لـ"الإرادة العامة". وكرّست التحولات الاجتماعية السياسية والاقتصادية اللاحقة المفهوم. رسالة فولتير في التسامح دفاعا عن كالاس، وبيان المثقفين تضامنا مع إميل زولا الذي سجن دفاعا عن درايفوس.. وغيرها، هي أحداث أصبحت قضايا رأي عام سيصبح موجّها أساسيا للسياسات الاجتماعية المختلفة للحكومات والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني. ومن خلاله، اكتسب المثقف سلطته، ومارسها أيضا.
في عالمنا العربي، لم تتوفر اشتراطات حقيقية لتكوّن الرأي العام، فحلت محله بروباغاندا السلطة السياسية، ودائرتها الضيقة من المنتفعين المتحالفين معها، مثقفين، إعلاميين، رجال أعمال، وسياسيين. تلوّنت هذه البروباغاندا بألوان اللحظات المختلفة سياسيا واقتصاديا، وأنتجت شعارات وهمية وإيهامية في مراحل مختلفة. ومع انهيار الدولة اليوم، تسود بروباغاندا الطائفة، والقبيلة، وزعماء المليشيات.
عمل استبداد النخب الحاكمة على جعل رأي الأغلبية الذي يفترض أن يسود اتجاهات الرأي العام مجرد رأي عام "باطن"، لم يتكوّن إيجابا، نتيجة عملية تبادل الآراء والنقاش الإيجابي والفاعل، بل سلبا، نتيجة خشية الأفراد من التعبير عن آرائهم واتجاهاتهم وحاجاتهم، وحصيلةً لسلسلة ردود الفعل المتراكمة عاطفيا، فنقاش الغرف المُغلقة يُحرَم من المعلومات والمعطيات الكافية، ومن إثراء مثقفين وخبراء وأصحاب الاختصاص.
مع إحكام القبضة الأمنية والعسكرية، واحتكار السلطة السياسية المجال العام، تضييقا على حرية التعبير، وتعديا مستمرا على حرية الصحافة ووسائل الإعلام، أصيبت الحياة السياسية العربية بالشلل. وفي غياب رأيٍ عام، وبالإضافة إلى قصورها الذاتي الفكري والتنظيمي، افتقدت حركات المعارضة التقليدية قاعدتها الجماهيرية التي كونتها في مرحلة المطالبة بالاستقلال، وفي أثناء التوجهات الليبرالية ما بعد الاستقلال قصيرة الأمد، ولجأ بعضها، في غير مرة، إلى سياسة المساومة، ووجد بعضها الآخر في الاستقواء بالآخر سبيلا إلى مواجهة الطغمة الحاكمة، وسياساتها الأمنية. وحين تأكد لبعضهم منها اضمحلاله اجتماعيا وسياسيا، تماهى مع سياسات النظام الحاكم.
لم تستند الحركات الإسلامية على الرأي العام، بل على الفضاء الدعوي التي أرادت سياسات الأنظمة الحاكمة حصرها فيه، لتصطدم لاحقا مع سياسات تلك الأنظمة في دوراتٍ من العنف والعنف المضاد، زادت الطين بِلَّة، قبل أن تقبل اللعبة الديمقراطية التي تنتهي عند صناديق الاقتراع. أما لعبة الجمع بين "مكاسب السلطة" و"شرف المعارضة"، فحرمت مثقفين من صناعة رأي عام يتكئون عليه، لممارسة أدوارهم الاجتماعية.
خرقت وسائل التواصل الاجتماعي الرقابة الصارمة، وأحدثت انزياحا في مفهوم الرأي العام، وفرزت نوعا جديدا من المعارضة، امتدّت إلى شرائح واسعة، ولم تعد تقتصر على جماعاتٍ ثانويةٍ تقليدية. تراجعت تلك النُكتة المذكورة، مع شعور المواطن العربي أن رأيا يعبر عنه بات ممكنا، إلا أن دور هذه الوسائل وقدرتها على تكوين الرأي العام ما زال موضع شك.
حجم الهوة بين الثقافتين، الشعبية والنُخبية، لم يتح قدرةً على تحويل كم المعلومات التي يراكمها هذا العالم الافتراضي إلى معرفة، ولم يتوفر جهد عقلي تركيبي يفضي إلى وعيٍ يدرك العام في الخاص، سيما مع كثافة المسائل الجزئية المطروحة للنقاش، والتي ما أن يبدأ حوار بشأن أحدها، حتى تطرح نفسها مسائل أخرى، من دون فرصة لتعميق الحوار واستخلاص النتائج. وكشفت إخفاقات الربيع العربي حدود التعويل على منصات التواصل الاجتماعي.
لا ينفصل الحوار الفاعل والمنتج في العالم الافتراضي عن امتلاك القدرة على الحكم وإبداء الرأي الذي يوفرهما حدٌّ أدنى من المستوى الثقافي، ونسبة أمية متدنية، وكذلك تقاربٌ في المستوى الاجتماعي للأفراد، وقدر واسع من الحريات المدنية والسياسية المؤسسة في العالم
في مجتمعات الحداثة وما بعدها، سبق تَكوّن الرأي العام المجتمع الافتراضي. أما في المجتمعات التقليدية، فعلى الرغم من بوادر إيجابية، ما زالت العوالم الافتراضية، حتى الآن على الأقل، عاجزةً عن إنتاج رأي عام لم تتوفر اشتراطاته مسبقا في المجتمع الواقعي.
قد نعيش طويلا في مجتمع افتراضي، تلوذ به نرجسيتنا، ما أن نبصر نور الصباح، نقول فيه، بكل جرأة ممكنةٍ، ما نريد، بأسمائنا الصريحة، أو المستعارة (غالبا)، لنصطدم طوال اليوم بحقيقة مجتمعاتنا الفعلية التي تعاني بطئا في الاتصال، وتشوها في التواصل، وتئن تحت كل أنواع "الهاكر" الاجتماعي، السياسي والأخلاقي والطائفي، الذي لا يجدي معه نفعا النكز، واللايك، والكومنت.
لقد أصبح للمواطن رأي من دون أن يتوفر رأي عام، وكأنّ نكتة اليوم تقول: أنا أرى لكن نحن لا.