ليونارد كوهين: هللويا، هللويا

11 نوفمبر 2016
(كوهين عام 1985، كندا - تصوير: أندرو ستاويكي)
+ الخط -

ليست الموسيقى وحدها من تنعى ليونارد كوهين (1934 - 2016) بل حتى الأدب أيضًا، ذلك أنه صاحب رواية "الخاسرون الجميلون" التي نشرت عام 1966، وحققت نجاحًا جعل قرّاء ونقّاد مدينة بوسطن يقولون: "إن جيمس جويس لم يمت بعد".

يأتي رحيل المغني والشاعر الكندي المولود في مونتريال، كتأكيد على نهاية حقبة كاملة ربّما، كان المغنّي فيها صادحًا بهموم المجتمع والإنسان، وربّما تكون جائزة نوبل للآداب، التي مُنحت لبوب ديلان هذا العام، بمثابة إشارة، إلى "ما لا يمضي" من الحقبة الموسيقية البارزة، التي اقتطعت لها مساحة من الزمن، لا تزول.

هذه المساحة، اقتطعت بالعناد، وبالرومانسية، اللذين مثّلهما ليونارد كوهين طوال خمسة عقود من كتابة قصائد الأغاني وتأليف ألحانها، فوصفه النقاد بالعنيد، الساعي لأن يكون نفسه ولا شيء آخر، ظل عصيًا على التقولب الذي طرأ بين حقبتي ما بعد الكولونيالية، والحداثة. إذ ظلّ شاهدًا بأغانيه على ما تعرّض له الإنسان الفرد من إهمال أمام التحوّلات الكبيرة في المفاهيم والقوى الجمعية.

الرومانسي العنيد، الذي كتب: "راقصيني، إلى أن ينتهي الحب"، ظلّ ينظر إلى العالم ببطء، ومع انتهاء حقبة القمع الكولونيالية، كما زيّن لنا هذا العالم، وبداية عصر السرعة والحداثة، ظلت كلماته عميقة، وألحانه بطيئة، تتسلّل إلى الروح، مطالبة إيانا بالتريث، والبحث عن الحب، أسفل ركام هذا العالم، كما في ضباب المعركة في أغنية "the partisan".

في هذه الأغنية، عن الاحتلال الألماني لفرنسا؛ جندي يتوه في الضباب، مفكرًا في أنه سيعود إلى الوطن في تابوت، وأنه لن يحقّق الحرية إلا بالموت، هذه هي الطريقة التي أجبره الاحتلال على رؤية الأشياء بها، وهو لا يتمكّن في النهاية إلا من تنفيذ إرادة الواقع، لكن لكي يمنح الآخرين فرصة الحب والعيش بحرّية، دون أن يضطروا للقتل والموت أو السكن في قبر من أجل هذا، يقول في نهاية الأغنية: "ها هي الريح تهب، سوف تأتي الحرّية قريبًا، سوف تأتي من الظلال، من أشباحنا".

لكن يبدو أنّ مفهومي الحرية والاحتلال كانا قابلين للتجزّؤ لدى كوهين. ففي حرب أكتوبر عام 1973، قطع جولته الفنية في اليونان، تاركًا زوجته وابنه هناك؛ ليذهب إلى سيناء ويغنّي لجيش الاحتلال الإسرائيلي! الذي ربما ظن أنه جيش القلة الحرة في مواجهة العرب الكثر.

حصل ذلك بعد سماعه بأخبار الحرب، وتطوع مغنين صهاينة لدعم الجيش الإسرائيلي، حتى إنه خطط للتطوع والعمل في أحد الكيبوتزات داخل "إسرائيل"! قال كوهين بعد عودته إلى أميركا: "من المميز أن تقترب من الحرب بهذا الشكل، وأن تحظى بتجربة لا يمكن أن تحظى بها في الحياة المدنية، في الحرب، يجبر كل رجل على تقديم أفضل ما لديه".

كانت الحرب مجرد متعة وتجربة أخرى لكوهين! الذي غنى للجنود واحدة من أغانيه، وقال لهم: "هي أغنية تصلح للاستماع في البيت، بقرب الحبيبة، مع كأس من الشراب، آمل أن تحظوا بهذا لاحقًا".

بدأ ليونارد كوهين مسيرته الموسيقية والغنائية فعليًا عام 1967، وهو في سن الثالثة والثلاثين حينما أطلق ألبومه الأول "أغاني ليونارد كوهين"، والذي بدت موسيقاه جنائزية كما قيل حينها، ولم تعجب الكثيرين، فيما كان كوهين قد انطلق من عزلته لأوّل مرة، وخرج إلى العالم ناعيًا إياه كما يبدو. ومؤكدًا أن العالم ينطلق من داخل الإنسان الذي لم يكن ليستمر في الوجود لولا أنه عاشق عتيق للحياة.

يرى نقاد ومستمعون لأغاني ليونارد كوهين، أن موسيقاه وقصائده تنطلق نحو الظلال، وتتمحور حول الإنسان الغارق في عزلته، الملتبس مع الوجود، والباحث عن الأمان والخروج من متاهات الأسئلة والمفاهيم وأثقال البنى الحداثية. إنه إنسان يغني بما يحلم، عن البساطة والحب والبطء، ويسعى لأن يكون هو العالم.

ولا شيء ربما يؤكّد هذه المساعي الفنية لكوهين بقدر ما تؤكدها عزلته التي امتدت لثلاثة أعوام (1990-1993)، إذ قضاها في التأمّل وسمّي خلالها: "الراهب الصامت"، مؤكدًا نزعته للطبيعة التي تهزم إرادتَها أي إرادة أخرى، ورؤيته المضادة لتعقيدات العصر التي يرفل فيها الإنسان، يقول كوهين: "أحببت موسيقى الروك ومنها أغاني ألفيس بريسلي، لأنها تصنع من كلمات بسيطة قصائد عميقة، كلما كان الشعر عميقًا، صارت اللغة أقرب للإنسان وأكثر تواضعًا".


ربما تعدّ أغنية "الغريب"، واحدة من أكثر الأغاني تأشيرًا لنظرة كوهين إلى العالم والموسيقى، وهي الأغنية التي تتحدّث عن رجال يقامرون، حيث المقامر يربح ويخسر، ثم يراهن من جديد بأحلامه، التي يكسبها تارة ويخسرها مرّة أخرى من رجل آخر يهزمه فيأخذها منه، وهذا المقامر، لا يدرك أنه بحاجة للحب، حتى يحصل على ملجأ في هذه الدنيا، وبعد أن يخسر كل شيء.

امتدّت مسيرة ليونارد كوهين، الذي اعتبر الكون مخلوقًا رومانسيًا، واعتبر الإنسان كائنًا بسيطًا خلق من حب وموسيقى، لخمسة عقود، كتب فيها روايتين، واثني عشر كتابًا شعريًا شملت كلمات أغانيه التي نوّعت بين الحب والحرب والتأمل، إضافة لستة عشر ألبومًا غنائيًا كان آخرها "أتريده أكثر ظلمة". كان شاعرًا بقدر ما كان ملحنًا، في مقطع من أغنية "الطائرة الورقية" كتب يقول: "الطائرة الورقية، هي آخر قصيدة صنعتها، أخذتها الريح، لكنها لم تدعها تذهب، إلى أن يصنع لها أحد آخر، شيئاً آخر، لتفعله".

على صفحتها الرسمية في فيسبوك، كتبت المغنية جوان بايز: "ليبارك الله ليونارد كوهين، لقد التقيت به لأوّل مرة في العام 1961، في قاعة فندق رخيص في تشيلسي، تطغى على جوّه رائحة الخمر والشعر الرديء، انتبهت له، كان يتقيأ هذا الجو المقيت داخل حجرة الهاتف في الفندق، بعد ذلك، انتقل من عزلته في قريته، إلى عزلة الدير البوذي، ثم خاض عزلته الخاصة، وكان يخرج إلى العالم في كل مرّة، بموسيقاه وحكمته، بقصائده الجميلة والعميقة، من ينسى أغنيته هللويا".

المساهمون