ليوبولدو دي لويس.. الشاعر في الزمن المعتم

19 يوليو 2018
(ليوبولدو دي لويس في مدريد، 1960)
+ الخط -

عَرفت قصيدة الشاعر الإسباني، ليوبولدو دي لويس (قرطبة 1918 - مدريد 2005)، أهمّ مخاضاتها في لحظةٍ معتمة من عمر بلاده التي كانت على موعدٍ مع أشدّ المراحل دراماتيكيةً في تاريخها المعاصر.

توجُّهه اليساري دفعه إلى الانخراط في صفوف الجيش الجمهوري وهو لمّا يزل شابّاً، لكن هزيمة الجمهوريّين على يد الجنرال فرانكو، نهايةَ ثلاثينيات القرن الماضي، ستجعل الضابط الجمهوري يعيش، باكراً، تجربة معسكرات الاعتقال وسجون الدكتاتورية، كغيره من شعراء المقاومة الإسبان خلال فترة الحكم الدكتاتوري؛ أمثال: ماركوس أنّا، وخوسيه لويس غاييغو، وغابرييل سيلايا، وبلاس دي أوتيرو، وخوسيه ييرو، وليون فيليبي.

هكذا، كان من الطبيعي أن تمتزج التجربتان الأدبية والسياسية بحيثُ يصعب الفصلُ بينهما خلال الحديث عن دي لويس، مثلما هو حال قلّةٍ من شعراء ذلك الجيل الإسباني عاشت مرارة الحرب والنفي والقمع من قِبل نظام فرانكو، وكما هو الحال بالنسبة إلى رفيقَيه ميغيل هيرنانديث وغابرييل بالدريش، اللذين جمعتهما به، إضافةً إلى تجربة الاعتقال، مجموعةٌ شعرية مشتركة بعنوان "قصائد الحرب" (1938)، كانت بمثابة إعلان مقاومةٍ ضدّ الدكتاتورية.

اعتبَر دي لويس نفسه بمثابة "ضيف زمنٍ معتم"، وهو عنوان أحد دواوينه المبكّرة في حياته الشعرية (صدر سنة 1948).

ومن هذا العنوان، استُوحيت تسمية المعرض الاستعادي الذي يُنظّمه "معهد سيرفانتيس" في مدريد لمناسبة مرورٍ مئة عامٍ على ميلاد دي لويس؛ حيثُ يجمع معرض "شاعرٌ في زمن معتم"، الذي يستمرّ حتّى نهاية أيلول/ سبتمبر المقبل، بين الجانبَين الوثائقي والببليوغرافي، مقترحاً كتباً ومخطوطاتٍ وصوراً فوتوغرافية تُوثّق لحياة الشاعر والكاتب الإسباني.

يضمّ المعرض، الذي تحتضنه قاعة العرض في المقرّ المركزي لـ"معهد سيرفانتيس" بالعاصمة الإسبانية منذ 18 حزيران/ يونيو الماضي، قرابة ثمانين قطعةً؛ من بينها كتبٌ ومخطوطات أصليّة ومقالات ومجلّات ورسومات وأعمال فنيّة ولوحات بالألوان المائية، إلى جانب بعض متعلّقات الشاعر الشخصية.

تُتيح تلك المعروضات إعادة اكتشاف مسار حياة ليوبولدو أوروتيا دي لويس، وهو اسمه الكامل كما تُظهره أوراقه الرسمية، والاقتراب من كتاباته الشعرية وقيمتها الأدبية والتاريخية والرمزية، هو الذي يُعدّ أحد أبرز شعر إسبانيا في القرن العشرين، خصوصاً في العقود التي تلت الحرب الأهلية، والتي جعلت منه أحد أهم الأصوات الشعرية في "جيل 36".

على أن دي لويس الذي رسمت قصائده مساراً اجتماعياً وسياسياً في مقاومة الدكتاتورية لم يكُن شاعراً فحسب، بل كان، أيضاً، كاتباً وناقداً أدبيّاً له مساهماتٌ كثيرةٌ في العديد من المجلّات الثقافية؛ مثل: "أكانطو"، و"كورثيل"، و"بويسيَّا إسبانيولا"، و"دفاتر هسبانوأمريكية"، و"إنسولا"، و"كانتيوكو"، و"بابيليس دي سون أرمادانس"، و"المعتمد".

في حديثٍ إلى "العربي الجديد"، يقول مدير المعرض، أنخيل لويس سوبرينو، إن مكتبة دي لويس وأرشيفه الشخصي، اللذين يضمّان العشرات من الوثائق والمخطوطات والمراسلات التي جمعته لأكثر من نصف قرن مع كتّاب ومثقّفين وفنّانين من أميركا اللاتينية والعالم، تُشكّل مصدراً أساسياً للتعرّف على النشاط الأدبي خلال العقود الوسطى من القرن الماضي.

يُتابع أن مكتبة دي لويس ترفد المعرض بأكثر من ثلاثين عنواناً أصلياً لدواوين شعرية نشرها على مدار أكثر من ستّين عاماً، إضافةً إلى القصائد المتناثرة في عشرات المجلّات والصحف الإسبانية والأميركولاتينية، والتي لم يجمعها في كتاب.

"كلُّ ذلك يُقدِّم شهادةً على مثابرة دي لويس الذي اضطرّ إلى التوفيق بين الكتابة والعمل في وكالة للتأمين"، يقول سوبرينو الذي يُضيف: "هناك، حيثُ عمل كرئيس قسم، كان يأتي في الموعد المحدّد... كان مثابراً، ويقظاً. في أحد لقاءاته مع بيثنتي أليكساندري، ولحظاتٍ قبل أن يغلق الدرج، حمل معطفه، ثم غادر إلى البيت عبر الميترو، معرّجاً على المطبعة لأخذ نسخةٍ من مجلّة أدبية. على مكتبه الخاصّ في بيته، كانت تنتظره صفحات بيضاء ليواصل عليها عمله اليومي والصامت، بنفس الدقّة في الالتزام بالمواعيد، ونفس العناية والاهتمام".

يقول سوبرينو إن ما مِن كلمةٍ تصف مسار دي لويس أفضل من الوفاء: "الوفاء للشعر، لزمنه، لذاته ولمعاصريه، ككاتب وقارئ لا يكلّ، وباحث وناقد أدبي، وناشر ومؤلّف للأنطولوجيات"، مضيفاً: "حضوره كرجلٍ صامت وهادئ، يكادُ يكون دائماً غير معلن. ظلّ يضيء بأعماله وآثار خطواته المشهد الأدبي خلال العقود الأكثر عتمةً في تاريخنا المعاصر".

كان دي لويس يعتبر الحياة والوجود عبوراً وطريقاً ونهراً متجدّداً ينحدر بقوّةٍ قاطعاً الحقول ليتلاشى في البحر، مثلما يضيع عنفوان الشباب، ويذوب حماس الفرد في الكتل الجماهيرية، ويُغرِق بحرُ التاريخ صوتَ الحياة اليومية. كان الشعرُ، بالنسبة إليه بمثابة "تنفّس عبر الجرح"، وهي العبارة التي لطالما ردّدها ليقول إن الشاعر، مثل أيّ كائن إنساني، يُعبّر، عن إرادة الحياة، من دون التخلّي عن أي شيء.

في شعره، لا نتلمّس، فقط، الإحساس بالهزيمة التاريخية وبالنهايات، بل أيضاً صور السعادة الهاربة. أمّا القصائد التي كتبها في سنواته الأخيرة، خصوصاً منذ مجموعته "فتاة تُحرّك الستارة" (1983)، فكانت أكثر فلسفيةً وتحرّراً من القوالب.

في 2003، صدرت أعماله الكاملة في جزءين. وفي العام الذي تلاه، نال "الجائزة الوطنية للآداب" التي مُنحت له في 1957 عن مجموعته "مسرح حقيقي" التي صدرت في العام نفسه، لكنها مُنعت بـ"فيتو" من وزارة الإعلام في تلك الفترة. بعد عامٍ واحدٍ من استلامه الجائزة، رحل ليوبولدو دي لويس وقد أوصى بأن يُنثَر رماده في البحر الذي كان قد كتب عنه:
"البحر تحوّل بغتةً إلى مقبرة
خرساء مثل الموت والعزلة".

المساهمون