كان اسمه "القصبة"، ملهى أسّسه شقيقان جزائريان مهاجران في مطلع الأربعينيات وأقفل عام 1985. مرّ منه فنانون ومغنون وموسيقيون مهاجرون يهود من الجزائر وتونس والمغرب؛ هنا غنّت لويزا التونسية (1905-1966) مع رفيقها يوسف حجيج الذي كان يعزف على خمس آلات مختلفة في الحفلة نفسها، وكانت والدته تخشى على أنفاسه من المزمار بينما هو يعزف ولويزا تغني "على باب دارك نصبوا الخيام" أغنية من اللون الشعبي.
في "القصبة" أيضاً، غنّت لين مونتي (1926-2003) مع حجيج الذي التقته قبل أن تهاجر إلى فرنسا بعشرة أعوام في وهران 1952 في حفل موسيقي على مسرح "فيردور"، قدّم لها ست أغان من تأليفه وتلحينه، من بينها "يا أمي"، وهي أغنية سبقتها إليها وردة الجزائرية وغنتها حين كان عمرها 12 عاماً في "كاباريه تام تام" الذي أسّسه والد وردة في مكان ليس ببعيد عن موقع ملهى "القصبة".
وفي "تام تام" ستلتقي مونتي بفريد الأطرش أول مرة، حيث أقام حفلاً فيه، ودعاها تالياً إلى زيارة القاهرة، وبالفعل ذهبت لين لتغني أمام أم كلثوم وعبد الوهاب في سهرة خاصة بالفنانين، وتزعم الروايات أنهم ظلّوا يشيرون إليها بـ "فتاة فرنسية بتغني كويس بالعربي"، في حين كان الوسط الفرنسي الذي يقصد ملاهي الحيّ اللاتيني ينظر إليها كعربية تغني الفرانكو آراب بشكل جيد. حاولت مونتي أن تجد جمهوراً بديلاً فقدّمت أغانٍ فرنسية خالصة تأثرت فيها بالأغنية الواقعية الفرنسية ولقيت حظاً طيباً في جولاتها الأوروبية.
حملت معظم الملاهي - التي أسّسها الجزائريون المهاجرون مطلع القرن العشرين وتزايدت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ثم بعد استقلال الجزائر- أسماء أماكن من الوطن الأم: "القصبة"، "الجزائر" و"تام تام"، (اختصار يجمع الحرف الأول اللاتيني من تونس والجزائر والمغرب). وقد جذب هذا الكاباريه معظم الأسماء التي أصبحت نجوم غناء الفرانكو آراب: ليلي بونيش، وليلي العباسي، ورينات الوهرانية، وسليم هلالي، وموريس المديوني وطبعاً مونتي.
معظم هذه الأسماء الجزائرية اليهودية لم تذهب إلى فلسطين المحتلة ولم تزر "إسرائيل" بعد أن انتقلت إلى فرنسا، أما سليم هلالي (1920 – 2005) فقد دُعي لتقديم حفل في القدس في الستينيات، فلبّى الدعوة وما أن وقف على المسرح حتى صرخ بالجمهور "تحيا الأمة العربية" ليلقى حصّته من شتائم وأحذية نزل بعدها ولم يغنِ ولم يزر "إسرائيل" بعد ذلك أبداً. قبل ذلك بسنوات، كان هلالي قد أصبح نجماً يهودياً ملاحقاً في فرنسا الفيشية، إلى أن أنقذه إمام الجامع الكبير سي قدور بن غبريط، بمنحه شهادة تفيد أن والده أسلم، وزيادة في البرهان نحت الإمام اسم والده على شاهدة في مقبرة إسلامية، القصة التي أصبحت فيلماً وثائقياً في ما بعد حمل عنوان "جامع باريس" (1991).
أما موريس المديني فقد ذهب يجرّب حظه في "إسرائيل" معتقداً أنه سيحقق نجومية ما، وهناك قوبل بالسخرية من طريقة غنائه وبالتهميش والعنصرية ضدّه كيهودي مشرقي، فعاد قبل أن يكمل العام إلى باريس. في حين قصدت مونتي فرنسا مباشرة من الجزائر عام 1961، ثم جرّبت هجرة ثانية إلى نيويورك، وبعد أعوام قليلة عادت لتغني في متروبول باريس وبقيت فيها مشكّلة شبه ثنائي مع المديني، الذي ظلّ يرافقها دائماً على البيانو ويكتب لها بعض الأغنيات، وكانت كلمة غربة أشبه بلازمة في معظم أغانيها.
تقول مونتي كلمة "غربة" فتلفظ الغين الممتلئة والكثيفة والمثيرة، مترقرقة ومهتزة أضعاف ما كانت تفعل إديت بياف. تبدأ الأغنية بهدوء وتمزج بصوتها ثقافتها الموسيقية لتتحرّك بحرية وتمزج بين الرومبا وغناء الغجر والراي والحوزي والإسباني والفرنسي والأندلسي في أغنية واحدة، بعض مقاطعها عربية تقليدية جداً تليها فجأة مقاطع فرنسية؛ طراز غنائي بدأه ذلك الجيل، ولم ينتشر في المشرق العربي إلا في التسعينيات حين بدأت تنتشر أغاني الراي- البوب الخفيفة على يد مغنّين مثل الشاب خالد وآخرين.
تلك السنوات، شهد الحيّ اللاتيني عصر الحنين الذهبي عند المهاجرين والمنفيين، والمفارقة أنه كان كذلك عند من تردّدوا من الفرنسيين أو عاشوا أو ولدوا في الجزائر في حقبة الاستعمار. كان الجميع يغني للجزائر، يكتب المديوني أغنية: "لم أذهب يوماً في إجازة.. حتى أنني لم أكن أعرف فرنسا إلا على الخريطة... وهران هل تفكرين بي. أنا أيضاً أفكر فيكِ".
أما بونيش فيقول "أحب كل المدن، وباريس أكثر قليلاً، لكن لا شيء مثل الجزائر". وتغني مونتي "يا غربتي في بلاد الناس"، العبارة التي تلفت إلى تعدّد المنافي بعيداً عن الجزائر، فكل بلاد لا حصة لها فيها إنها بلاد هؤلاء الغرباء "الناس".
لين مونتي ولدت في وهران لعائلة موسيقية بامتياز، اسمها الحقيقي إليان صيرفاتي، سمح لها والدها بالغناء فخوراً بصوتها الفريد في حفلات ومناسبات وسهرات عائلية، لكن موقفه تغيّر حين أرادت الاحتراف وهي مراهقة، فمنعها من الغناء أو الاقتراب من الآلات الموسيقية التي كانت جزءاً من أثاث البيت، قال "إنه يفضلها ميتة على مغنية".
ورغم عنادها وتحقيقها شهرة في شبابها، إلا أنها نُسيت، وقد سألتُ كثيراً من الـ "سميعة" عنها قبل الكتابة عنها ولم يعرفها أحد، ولم أكن لأعرفها كذلك لو لم يرسل لي صديق جزائري رابطاً لإحدى أغنياتها، وقد يكون موت الفنان الفعلي هو في أن يطويه النسيان.