عزيزي أورويل..
أبعث إليك بتحياتي الحارة وتقديري العميق لكتاباتك العابرة للأزمان، رغم عدم قراءتي سوى رواية 1984، فلم أكن قد انتهيت من قراءتها حين تم القبض عليّ، إلا أن الصفحات التي قرأتها قد أخذت بعقلي وأسرت أفكاري داخل جدران الغلاف، بينما جسدي سجين جدران "التخشيبة".
كنت أتمنى حضورك المناقشة التي تمت بيني وبين ضابط الشرطة منذ قليل. لن أخفي عليك أن الضابط لم يكن يعرف عنك أو عن روايتك شيئاً، هكذا يفضلونهم في بلادنا، لكنه فوجئ بالهجمة التي شنها الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي على الداخلية بعد نشر خبر القبض عليّ بسبب الرواية،.بالطبع الرواية لم تكن السبب الرئيسي في اشتباه الضابط في شخصيتي، ولكن رفضي للتفتيش وفي يدي كتاب يحمل عنواناً مبهماً بالنسبة إليه كفيل بدفعه إلى اعتقالي حتى تثبت إدانتي.
عدة اتصالات تلقاها الضابط من قادته ومن إعلاميين وحتى أصدقاء شخصيين للاستفهام عن علاقة القبض عليّ بالرواية، جعلته ينفرد بي في مكتبه لأحكي له الرواية، فلا وقت لديه للقراءة، هكذا قال. أثناء تحدثي عن الرواية، أخذ يتصفح ورقاتها وكأنه يبحث عن صورة أو وردة دفنها في كتاب قديم. بعد نظرة سريعة وكلمات بسيطة نطقتها، أخذ كفايته ليدرك أن الرواية هي صنيعة الاستخبارات الأميركية لزعزعة أنظمة البلدان المستقرة. تحدث عن الفوضى الخلاقة وحروب الجيل الرابع وكونداليزا رايس والشرق الأوسط الكبير. تحدث عن الأخطار التي تحيق بنا ومستقبلنا المتمثّل في العراق وسورية. صرح بأنه لم يكن يعلم أن هناك كتباً بهذه الخطورة تباع في الأسواق، مؤكداً أن من الضروري أنه تم تهريبها أثناء الانفلات الأمني.
كانت ثورته عظيمة عندما أخبرته أن الرواية صدرت قبل 65 عاماً وكانت تتحدث عن مستقبل الحلفاء بعد فوزهم في الحرب العالمية الثانية. زاد غضبه اشتعالاً حين علم أن الرواية ليست مهرّبة، وإنما تصدر عن دار نشر رسمية وموثّقة وتباع في معرض الكتاب والمكتبات، ضرب بكلتا يديه على المكتب وقال: "ده كان زمان، زمن الفوضى والسايب في السايب انتهى"، ختم كلامه بتأكيد أنه سيرفع مذكرة إلى الأمن الوطني والاستخبارات العامة، ربما إلى السيسي نفسه لو لزم الأمر، بضرورة مصادرة الرواية ومنع طباعتها ونشرها وتشكيل لجنة "داخلية" لمراجعة كل الكتب الموجودة بالأسواق بحثاً عن كتب مشابهة.
عدت إلى زنزانتي لأتناول الورقة والقلم وأكتب رسالتي وأعلمك بأن جملة من روايتك لمعت في ذهني أثناء ثورة الضابط الغاضبة: "لم يكن من المرغوب فيه أن يكون لدى عامة الشعب وعي سياسي قوي، فكل ما هو مطلوب منهم وطنية بدائية يمكن اللجوء اليها حين يستلزم الأمر".
في بداية قراءتي للرواية، تصوّرتها تنبؤاً بتوحّش النظام العالمي الجديد الذي ولد من رحم الحرب العالمية وأجرى جراحات تجميلية خلال الحرب الباردة. رحت أفكر في تحقق النبوءة على أيدي الحلفاء بشكل يختلف عن التصور المباشر الذي رصدته أنت، فبدلاً من تجنيد أفراد المجتمع النظام العالمي جند التكنولوجيا لتعمل جواسيس له، مثلاً المنظومة التي تشمل بطاقاتك الائتمانية وحساباتك البنكية وبريدك وعلاقاتك الالكترونية، نظام عالمي يمتلك كل ما تريده من معلومات دون انتزاعها منك أو مراقبين، فأنت تكتبها بنفسك على مواقع التواصل الاجتماعي.
شطح بي الفكر إلى أنك ربما تقصد أفكاراً وجودية طارحاً أسئلتك عن الخالق والملكوت، عن الثواب والعقاب، تصوّرت أنك تسقط نظرياتك الفلسفية على المخلوقات لتقرّب الأمثلة إلى تفكيرنا، لم أتصوّر أن مجتمعاً نقيضاً ليوتوبيا المدينة الفاضلة من الممكن أن يوجد حتى قابلت حضرة الباشا الضابط. ولكن قراءة الرواية وتجربة المناقشة مع الباشا ثم الحبس، جعلت حروفاً من نور كتاباتك تضيء لي طريق المستقبل.