ساعات خمس عصيبة، عاشتها تركيا في مثل هذا اليوم قبل سنتين، لولا عوامل ساهمت في إخماد انقلاب عسكري بمهده، أبرزها تحرّك الشعب لحماية بلد لطالما عانى من الانقلابات، فضلاً عن موقف سجله التاريخ لمعارضة انحازت إلى النظام الديمقراطي، ولعسكر أوقف تلك المحاولة.
ليلة الانقلاب
عند الساعة الحادية عشرة مساء الجمعة في 15 يوليو/ تموز 2016، أغلقت عناصر من الجيش التركي الخط المتجه من الشق الآسيوي إلى الأوروبي على جسر البوسفور في إسطنبول، وحاصرت مقر حزب "العدالة والتنمية" العام في المدينة، وسط ضبابية في المشهد، لم يجليها إلا إعلان رئيس الوزراء التركي آنذاك بن علي يلدريم أنّ ما يحدث هو محاولة انقلاب عسكري.
الأحداث على الأرض توالت راسمة صورة المشهد، لا سيما في العاصمة أنقرة التي شهدت إطلاق نار، وسط تحليق مروحيات عسكرية في سمائها، وأنباء عن احتجاز الانقلابيين من الجيش قيادات رافضة لمحاولة الانقلاب تلك، أبرزها رئيس هيئة الأركان وقتها خلوصي آكار.
لكن الحدث الأبرز الذي أوضح حقيقة ما يجري، تمثل في سيطرة الانقلابيين على القناة التركية الرسمية "تي آر تي"، وبثهم بياناً عن السيطرة على السلطة، إذ دخل أربعة جنود من الجيش التركي إليها وأجبروا إحدى مذيعاتها على تلاوة بيان المحاولة الانقلابيّة.
وأكد البيان فرض الأحكام العرفية، وفرض حظر التجوال في البلاد، وإيقاف حركة النقل الجوي في جميع مطارات تركيا.
كلمة أردوغان
رد السلطة الشرعية على بيان الانقلابيين لم يتأخر، إذ خرج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في اتصال عبر تطبيق "فيس تايم"، مع محطة "سي إن إن تورك" الخاصّة، ليوجه نداء إلى الأتراك بالنزول إلى الشارع، من أجل الوقوف في وجه المحاولة الانقلابية.
وقال أردوغان، في حواره الذي تم تداوله أيضاً على مواقع التواصل الاجتماعي، "بوصفي رئيساً للجمهورية وقائداً عاماً للجيش لم أكن أعلم بحركة هذه المجموعة من الجيش، ولا أعرف وضع المحتجزين في قيادة الأركان".
ودعا أردوغان المواطنين للخروج إلى الشارع "للدفاع عن الديمقراطية التركية"، مشيراً إلى أنّ العناصر الانقلابية قامت بالسيطرة على أبراج مطار أتاتورك في إسطنبول، متوعّداً من قام بهذا العمل بأنّه "ستتم معاقبته بشدة".
وطالب أردوغان من سماهم بجنرالات الجيش "الشرفاء"، بالوقوف في وجه هذه المحاولة التي قام بها "من باعوا أنفسهم"، كما حث البرلمان والأحزاب السياسية على النزول لرفض هذه المحاولة الانقلابية.
وتبيّن لاحقاً أنّ أردوغان نجا شخصياً من هجوم شنّته قوة انقلابية على الفندق الذي كان يقيم به في مدينة مارماريس على البحر المتوسط جنوب غربي البلاد، حيث تمكّن من المغادرة قبل وصول الانقالبيين الذين هبطوا بالمروحيات، ونجح في التوجه إلى المطار لركوب طائرته نحو إسطنبول.
الشعب في الميدان
بالفعل، نزل الشعب التركي إلى الشوارع ليواجه دبابات الانقلابيين التي كانت تحاول فرض السيطرة التامة على العاصمة أنقرة، وهاجمت مباني الوزارات والمؤسسات العامة، ونجحت في السيطرة على عدد كبير منها، بينما سمعت انفجارات وأصوات إطلاق نار في المجمع الرئاسي.
وتجمّعت حشود من المواطنين حول مبنى البرلمان، مانعة قوات الانقلابيين من السيطرة عليه، الأمر الذي دفع هؤلاء لقصفه بالطيران.
لم تأبه جماهير الشعب التركي بقوة الانقلابيين الذين حولوا سلاح الجيش إلى صدور من يفترض أنّهم متعهدون بحمايتهم، ووقعت مواجهات أيضاً في مدينة إسطنبول، أكبر مدن البلاد وعاصمتها الثقافية والاقتصادية، بي نما أطلقت مساجد عدة عبر مآذنها، تكبيرات ودعوات للمواطنين بالنزول إلى الشارع، لحماية البلاد من الانقلاب العسكري.
شهد ميدان تقسيم تظاهرة كبرى لعدد من المواطنين، بينما وقع في شوارع أحياء بشكتاش وأورتاكوي والفاتح ومناطق إسطنبول القديمة كر وفر بين دبابات الانقلابيين وآلاف المتظاهرين العزل الذين منعوا الدبابات والمدرعات من الحركة بحرية، وحرموا الانقلابيين من إمكانية السيطرة على المرافق الحيوية والمؤسسات الحكومة والمدارس العسكرية والجامعات وغيرها.
ولم تقتصر التظاهرات الرافضة لمحاولة الانقلاب على العاصمة أنقرة وإسطنبول والمدن الكبرى، إذ خرجت في مدينتي غازي عنتاب وأنطاكيا جنوبي البلاد تظاهرات مماثلة، وكذلك في مدن أخرى.
موقف الساسة والمعارضة
لم تقتصر مواجهة محاولة الانقلاب على الشعب في الميدان، إذ سارع رجال السلطة الشرعية، سواء في الحكومة أو البرلمان، إلى تبيان موقفهم مما يجري، فضلاً عن تسجيل قوى المعارضة التركية موقفاً حازماً تجلّى بتنحية الخلافات السياسية مع الطرف الحاكم، والانحياز إلى النظام الديمقراطي.
خرج الرئيس التركي السابق عبدالله غول، في تصريح عبر الهاتف، ليعلن رفضه المحاولة الانقلابية، مشدداً على "ضرورة التخلّص من هذه الليلة الصعبة سريعاً، والعودة إلى الديمقراطية". وقال إنّ "هناك قوات مسلحة تقوم بنجاحات للدفاع عن الديمقراطية ضد الانقلابيين". وشدد على أنّه "لا يمكن القبول أبداً بأي محاولة انقلابية".
كذلك أعلن رئيسا "الحركة القومية" دولت بهجلي، و"حزب الشعب الجمهوري" كمال كلجدار أوغلو، التركيين رفضهما أي محاولة انقلابية.
وقال كلجدار أوغلو إنّ "تركيا عانت من الانقلابات كثيراً وستدافع عن الديمقراطية. سنكون أوفياء لجمهوريتنا وديمقراطيتنا، وسندافع عن قيمنا حتى النهاية"، مؤيداً نزول الشعب إلى الميادين للوقوف في وجه الانقلاب.
من جهته، قال بهجلي "نحن نواجه انقلاباً حقيقياً، من الواضح أن مجموعة من الأشخاص تحركت من دون علم القيادة العسكرية، وليعلم المواطنون جميعاً أننا لن نسمح بأي نشاط يجلب الضرر لديمقراطيتنا. إنّ الحكومة التركية هي حكومة منتخبة من قبل المواطنين وتمثل إرادة الأمة"، مضيفاً أنّ "الذين حاولوا الانقلاب سيدفعون ثمناً باهظاً لفعلتهم، ولن نسمح أبداً لهذا الجنون بالاستمرار، وليعلموا ذلك".
وبعد دقائق معدودة، خرج رئيس البرلمان التركي إسماعيل كهرمان، ليعلن أنّ جميع النواب معه الآن، وهم يرفضون محاولة الانقلاب. وشدّد على أنّه "على الجميع أن يقف صفاً واحداً للدفاع عن الديمقراطية".
العسكر أيضاً
ومع أنّ محاولة الانقلاب نفّذتها قوى في الجيش، إلا أنّ هذا المخطط لم يلق إجماعاً من داخل المؤسسة العسكرية نفسها، وسارعت قيادات عسكرية إلى اتخاذ خطوات على الأرض تمنع هذا المخطط، فضلاً عن تبيان موقفها أمام الشعب في الشارع.
وأعلن وزير الدفاع التركي فكري إيشيك، أنّ الجزء الأكبر من الجيش لم يعط اعتباراً لهذه الحركة الانقلابية، في حين أبدى قائد القوات البحرية، الجنرال بولنت بوستان أوغلو، أيضاً معارضته الانقلاب.
كما أعلن قائد الجيش الأول الجنرال أوميد دوندار أنّ من قام بمحاولة الانقلاب "فصيل صغير ولا داعي للقلق"، مشيراً إلى أنّه تم اتخاذ التدابير اللازمة للوقوف بوجه الانقلابيين.
وتوجّهت قيادة الدرك التركية لمواجهة الانقلابيين الذين سيطروا على القصر الرئاسي، وكذلك في مختلف الولايات التركية، الأمر الذي أكده جلال الدين ليكسيز المدير العام لمديريات الأمن التركية، قائلاً: "توجّهت قيادة قوات الدرك لاستعادة السيطرة على القصر الرئاسي من قبل الانقلابيين والمتمردين".
صفحة طويت
لم تستمر محاولة الانقلاب أكثر من أربع ساعات، إذ قام جنود انقلابيون بتسليم أنفسهم فوق جسر البوسفور في إسطنبول، فيما قصفت مقاتلات "إف-16" دبابات للانقلابيين في محيط القصر الرئاسي بأنقرة، وجرت استعادة السيطرة على مبنى التلفزيون في العاصمة الذي احتلته مجموعة انقلابية.
وقام 700 من عناصر وضباط الجيش التركي الذين كانوا موجودين في قيادة هيئة الأركان التركية بتسليم أنفسهم لقوات الشرطة التركية، مؤكدين أنه تم استدعاؤهم إلى مقر هيئة الأركان بحجة وجود مناورات وتدريبات عسكرية.
وتواصلت جهود الدرك في عموم تركيا لمواجهة الانقلابيين، إذ تمت محاصرتهم في بعض الجيوب.
وخرج في النهاية وزير الداخلية التركي إفكان ألا، ليعلن أنّه تم القضاء على المحاولة الانقلابية، كاشفاً عن هوية قائد الانقلاب وهو مستشار رئيس الأركان التركي العقيد محرم كوسا.
كما أعلنت المخابرات التركية عن دحر الانقلابيين واعتقال 13 عسكرياً منهم، بينهم 3 ضباط، بينما ذكر رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم أنّ قائد الفيلق الثالث أعطى أوامره إلى الجيش للعودة إلى الثكنات.
وفر 8 من العسكريين الانقلابيين على متن حوامة عسكرية تركية إلى مدينة ألكسندرلويس اليونانية، وقاموا بتقديم طلب لجوء سياسي.
وتم إنقاذ الجنرال خلوصي أكار بعملية عسكرية، بعدما احتجزه الانقلابيون في إحدى القواعد العسكرية القريبة من العاصمة التركية أنقرة، فتولى قائد الجيش الأول التركي الجنرال أوميد دوندار رئاسة الأركان بالوكالة.
وأكد الجنرال دوندار أنّ الجيش التركي هو في خدمة الأمة التركية، قائلاً: "استشهد من قواتنا 90 شخصاً، بينهم 41 من قوات الشرطة التركية، وعسكريان اثنان، و47 من المدنيين، وتم اعتقال 1563 من العسكريين الانقلابيين وعلى رأسهم الجنرال صادق كور أوغلو، وقتل من الانقلابيين 104 أشخاص".
وأكد أنّ صفحة الانقلابات العسكرية بتركيا طُويت إلى الأبد، مشيراً إلى أنّ محاولة الانقلاب نفذتها قوات من سلاح الجو وبعض قوات الأمن و"عناصر مدرعة".
ومع ساعات الفجر الأولى السبت 16 يوليو/ تموز، أعلن أردوغان فشل الانقلاب العسكري، داعياً المواطنين إلى البقاء في الشوارع، لحين عودة الوضع إلى طبيعته. وفي كلمة أمام حشد ضم آلافاً يلوحون بالأعلام في المطار الرئيسي بإسطنبول، قال أردوغان إنّ "الحكومة لا تزال على رأس السلطة".
المنفذون
اتهمت الحكومة التركية "حركة الخدمة" بزعامة الداعية فتح الله غولن، المقيم في الولايات المتحدة، بالوقوف وراءها، رغم إنكار الأخير ذلك، في بيان.
وبحسب تصريح وزير الداخلية التركي إفكان ألا، فإنّ مخطط الانقلاب الرئيس هو العقيد محرم كوسا، المستشار السابق في هيئة الأركان، الذي تم إبعاده عن الجيش في مارس/ آذار الماضي بعد اتهامه بالولاء لـ"حركة الخدمة".
قاد كوسا المحاولة الانقلابية برفقة 37 ضابطاً في الجيش التركي، أبرزهم العقيد محمد أوغوز واللواء أركان أكن أوزتورك القائد السابق للقوات الجوية، والعقيد ديريا يامان، بالإضافة إلى قائد القوات الثانية آدم حودوتي.
واستمر تعداد العسكريين الذين تم إلقاء القبض عليهم، خلال اليوم التالي للانقلاب، ليصل إلى 2839 عسكرياً؛ بينهم على الأقل 16 جنرالاً، منهم توزجان كزل إلما قائد القاعدة الجوية البحرية، وقائد قوات خفر السواحل التركية حاقان أوستم، وغيرهم.
وأعلن في وقت لاحق عن اعتقال حودوتي، الذي يُقال إنّه من أعطى أوامره ووجّه المروحيات لقصف المقرّ الذي يوجد فيه أردوغان والبرلمان.
وأكّدت وزارة العدل أنّ النيابات العامة في كافة الولايات فتحت تحقيقاً في المحاولة الانقلابية الفاشلة، واعتقال القاضي ألب أرسلان ألتان، عضو المحكمة الدستورية العليا، فضلاً عن اعتقال وعزل آلاف القضاة.
وتواصلت بعد ذلك عمليات اعتقال وعزل الآلاف من الوظائف العامة، وتم فرض حالة الطوارئ وتمديدها مراراً وصولاً إلى اليوم.
... والمتصدّون
بدا واضحاً أنّ العملية كانت من تنفيذ مجموعة من الضباط من دون أوامر القيادات العليا في هيئة الأركان التركية، ما جعل فشل المحاولة أمراً حتمياً، على عكس الانقلابات السابقة التي قادها الجيش التركي، التي كانت من تنفيذ قيادات الصف الأول في هيئة الأركان.
ولعبت قوات الشرطة التركية والمخابرات وعدد من وحدات الجيش، وبالذات القوات الخاصة وقوات الدرك، دوراً محورياً في ضرب المحاولة الانقلابية.
ومن ضمن هذه الشخصيات رئيس المخابرات حاقان فيدان، الذي يعتبر الصندوق الأسود لأردوغان، وألد أعداء حركة "الخدمة".
وكان لقوات الشرطة ووحداتها الخاصة دور مهم في إنهاء المحاولة الانقلابية، خصوصاً أنّ مديريات الأمن معروفة بولائها للحكومة التركية، بعدما تعرّضت لحملات تطهير واسعة منذ اندلاع الخلاف بين كل من حزب "العدالة والتنمية" وحركة "الخدمة" في نهاية 2013.
يُذكر أنّ الانقلاب الفاشل في يوليو/ تموز 2016 هو الخامس في تركيا، بعد الانقلاب العسكري في 1960 برئاسة الجنرال جمال جورسيل، على رئيس الوزراء عدنان مندريس الذي تم إعدامه، وانقلاب 1971 الذي عُرف باسم "انقلاب المذكّرة"، وهي مذكّرة عسكرية أرسلها الجيش بدلاً من الدبابات إلى رئيس الحكومة سليمان ديميريل طالبه فيها بالتنحي، وقام على إثرها بالاستقالة، فضلاً عن انقلاب كنعان إيفرين في عام 1980، و"الانقلاب الأبيض" عام 1997 على حكومة نجم الدين أربكان.