ليس للمعتدلين السوريين سوى تجرع السمّ

11 يوليو 2014

اجتماع للمعارضة السورية في اسطنبول (يوليو/2013/فرانس برس)

+ الخط -


مرة جديدة، تواجه المعارضة السياسية السورية السؤال المحزن "ما العمل الآن؟" ومع تراكم الإجابات الخاطئة، يزداد مأزق تلك المعارضة عمقاً، وتضيق السبل في وجهها، حتى أصبحت أمام خيار وحيد، هو القبول بمجلس قيادة عسكري، يقوده فرد مطلق الصلاحيات، هو ما يمكن وصفه بالانتحار، بالنسبة للطبقة السياسية التي نشأت مع الثورة السورية، وبنت تصوراتها ووعودها على المنظومة الديمقراطية التي كانت تحلم ببنائها، على أنقاض نظام الأسد.

في كتابه "تشريح الثورات"، وبعد البحث المعمق في الثورات الفرنسية والأميركية والبلشفية وسواها، يخلص الباحث الأميركي، كرين برينتن، إلى القول إن الثورات تنتهي بالعودة إلى حيث بدأت، تتغير بعض الأفكار، وينزاح هيكل القوة قليلاً، وتطبق إصلاحات، ويمحى أسوأ ما في النظام القديم، وتشرع طبقة حاكمة جديدة بفرض سلطتها ومصالحها.

وفي الصراع الذي تخوضه القوى الأكثر تشدداً وعنفاً على الساحة السورية، وفي جوارها، لم يعد للمعتدلين من أقطاب المعارضة السياسية السورية دور يذكر، وهو عين ما أشار إليه برينتن، أيضاً، في كتابه، إذ يصل المعتدلون إلى السلطة، عقب قيام الثورة مباشرة، لكنهم سرعان ما يفقدونها، بسبب الضغوط الاقتصادية، والفشل في إدارة الأزمة العامة، وفي مناخٍ من النقمة المتصاعدة، يبدأ انتقال القيادة إلى أيدي من هم أكثر تطرفاً وإيماناً بالعنف، ويتم إقصاء المعتدلين عن صناعة القرار رويداً رويداً، بقرع طبول الحرب بقوة، ثم تفرز المجموعة المتشددة فريقاً قيادياً من الصقور، يؤلفون مجلساً ثورياً، يقوده رجل قوي، ينفرد بالحكم عملياً، ويقصي منافسيه وخصومه.

وفي هذه الأثناء، تفقد الثورة زخمها بين صفوف الشعب بالتدريج، وصولاً إلى ما يسميها برينتن "مرحلة الخلاص"، وفيها تبدأ الأمور بالعودة البطيئة إلى الهدوء، ويستتب الحكم للفرد الطاغية الذي يتخلص من العناصر الأكثر تطرفاً في فريقه، ويضم معتدلين إليه، ومع تباعد ذكرى الثورة، تدخل البلاد مرحلة الانتعاش، وعودة الاستقرار، ويبدأ الناس في التخلص من علامات تلك المرحلة، ويغيرون ملابسهم وأسلوب حياتهم في محاولة لنسيانها، ويتخلون عن عاداتٍ كثيرة، متسمة بالتطرف التي آمنوا بها في حقبة الثورة.

وقعت الترسيمة التاريخية السابقة بدرجات متفاوتة في معظم بلدان الربيع العربي، وحدثت في سورية بحذافيرها، إذ مسار الفصائل الإسلامية الذي بلغ ذروته مع تنظيم الدولة الإسلامية، ينطوي على كل المراحل التي ذكرها برينتن، بل سيجد فيها أيضاً الخلاصة القاطعة التي توصل إليها في نهاية كتابه، وهي عودة الأمور من الناحية السلطوية إلى ما كانت عليه قبل الثورة، فالحياة في ظل خلافة أبو بكر البغدادي لا تختلف كثيراً عن العيش في ظل قيادة الأسد، سوى ببعض الوجوه والرموز والأدوات.

ويلوح في أفق المعارضة السورية، اليوم، مجلس عسكري، تجتمع إرادة معظم الأطراف المعنية على إيجاده ودعمه للخروج من الاستعصاء الذي وقعت فيه القضية السورية، وثمة شخصيات تمتلك القدرة والجرأة على انتزاع المبادرة الاستراتيجية، وفرض نفسها على الثورة السورية كـ"زعامة"، واحتكار الدعم الخارجي، والهيمنة على الموارد الداخلية، من خلال احتكار العمل المسلح، الذي سيكون صاحب الكلمة العليا في أي استحقاق سياسي، ومن نافل القول، هنا، أن لا مناص للمعتدلين والمعارضين على خلفية ديمقراطية، من تجرع السمّ بصمت، فمشروعهم لم يسقط بقوة الواقع وقوانين التاريخ فحسب، بل لأنهم، أيضاً، لم يخدموه بالإخلاص والمسؤولية اللتين يستحقهما مشروع الديمقراطية الضخم، واكتفوا بالرهان على الرياح الغربية لدفع مركبهم المتواضع إلى شاطئ الأمان، وغاب عن بالهم أن هذه الرياح لا تهب إلا على هواها.

76897920-E719-4E8C-98F4-7513E671DD89
عبد الناصر العايد

كاتب وروائي سوري مواليد 1975 صدر له روايتان: "قصر الطين" و"سيد الهاوما".