ليس كل مرّة تسلم الجرّة

19 يوليو 2016

تونسيون مبتهجون أمام السفارة التركية بفشل الانقلاب (16 يوليو/2016/الأناضول)

+ الخط -
من المفارقات أن محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا وحّدت الأتراك، لكنها قسمت الأوساط السياسية والمدنية في معظم البلاد العربية، ومن بينها تونس. ويعود ذلك، بالأساس، إلى شخصية أردوغان الإشكالية، وإلى الجدل المستمر حول تقييم أداء الإسلاميين في دول المنطقة، بما في ذلك حزب العدالة والتنمية التركي.
هناك من التونسيين من عبّروا عن تخوفاتهم، منذ اللحظة الأولى، على مصير الديمقراطية التركية، ودانوا بغضب المحاولة الانقلابية. لكن، هناك من غمرتهم السعادة، بعد إعلان الانقلابيين سيطرتهم على الحكم، إلى درجة أن بعضهم، وإن كان عددهم قليلاً، بلغت بهم الشماتة والرغبة في الانتقام أن تمنوا تكرار السيناريو نفسه في تونس، حتى يتخلصوا نهائيا من حركة النهضة وأشباهها (!).
هذه الردود المتسرعة ناتجة، بالأساس، عن ضعف الثقافة الليبرالية لدى بعض الأوساط التي ترغب في تصدّر المشهد العام وقيادة المرحلة. فهؤلاء ينادون بالديمقراطية، لكنهم يتنكّرون لقواعدها، عندما لا تحقق مصالحهم، ولا تضعهم في الصدارة، ولا تمكّنهم من الوصول عبر الشعب إلى مواقع القيادة، ويصبحون أكثر استعداداً للانقلاب عليها، في حال أنها مكّنت خصومهم الأيديولوجيين من تقدّم الصفوف، والحكم باسم الأغلبية.
الجديد والمهم في هذا الأمر أنه كان لفشل الانقلابيين الأتراك، بفضل التدخل الشعبي المدني الرائع، وقع شديد على هؤلاء الذين بلغ بهم العجز السياسي إلى حد التمني بأن يتدخّل الجيش في بلادهم، من أجل إزاحة خصومهم. همشتهم الإرادة الشعبية التركية. لأن ما حصل في أنقرة وإسطنبول لم يكن مجرّد إسقاط حاكم وحزبه من السلطة، بقدر ما كان إيذاناً بتوجيه ضربةٍ قاتلةٍ لمشروعية الانتقال الديمقراطي في كامل دول المنطقة، بحجة أن هذا القوس الذي فتح تحوّل إلى بوابةٍ في خدمة الأحزاب الدينية. وبالتالي، المعركة التي تابعها الملايين من المشاهدين العرب عبر الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي، وكان أبطالها الأتراك، بمختلف مواقعهم، لم تكن فقط حدثاً محلياً، بقدر ما كانت، من الناحية الرمزية، واحدةً من معارك كثيرة، تخاض منذ نجاح الثورة التونسية، من أجل وضع حد لمحاولة تحقيق التحرّر السياسي، وبناء أنظمة ديمقراطية فعلية، أو غلق هذا القوس، والعودة إلى الاستبداد الشرقي، بمختلف أشكاله. وقد فهمت المعارضة العلمانية التركية هذه المعادلة، وكانت شجاعةً ومسؤولةً، عندما رفضت المنطق الانقلابي، وانحازت للشرعية بدون تردّد، ونزل أنصارها إلى الشوارع، للوقوف في وجه الدبابات، وتجاوزت منطق الخصومة الأيديولوجية مع أنصار "العدالة والتنمية"، ووضعت مصلحة الوطن فوق كل الحسابات الصغيرة، لأنه عندما تكون الديمقراطية في خطرٍ، يكون الوطن كله في خطر.
اليوم وقد نجح أردوغان في اجتياز هذا الاختبار القاسي، وربح وقوف الشعب إلى جانبه، باعتباره يمثل الشرعية الديمقراطية، عليه أن يقرأ المشهد الجديد بكثير من الذكاء والمسؤولية. وعليه بالخصوص أن يقيّم بعمق تجربته في الحكم، لكي يعدّل بعض مساراته، ويعيد ترتيب عدد من أولوياته.
هناك علاقة جدلية وتكاملية بين الديمقراطية في البلاد والديمقراطية داخل الحزب الحاكم. كما أن تجارب الانتقال الديمقراطي أثبتت، بكل وضوح، أن صندوق الاقتراع ليس كافياً وحده لإيجاد الاستقرار، وإنما يجب أن تكون نتائج الانتخابات مدعومةً بمؤسساتٍ دستوريةٍ، قوية محترمة من رجال السلطة، قبل رجال المعارضة، وأن يكون الماسك بالمقود متشبعاً بروح الوفاق التي تجعله قادراً على حماية الوحدة الوطنية، وتقليص حجم الخلافات مع منافسيه، من دون أن يعني ذلك إلغاء مبدأ التنافس والصراع الديمقراطي.
نعم، نجح أردوغان وحزبه في هذا الاختبار الصعب، لكن ما حصل رسالةٌ قويةٌ موجهةٌ ضد أسلوبه في إدارة السلطة. وإذا لم يدرك الرجل القوي مضمون الرسالة، واستمر في سياسةٍ اختلط فيها النزوع الفردي بالخطاب الأيديولوجي، ويواصل في توسيع دائرة خصومه في الداخل والخارج، خصوصاً مع المعركة التي فتحها مع الإدارة الأميركية، فإن التاريخ علم الجميع أنه ليس في كل مرة تسلم الجرّة.