ليستفِد الإسلاميون العرب من "العدالة والتنمية" التركي

29 اغسطس 2014

أوغلو وزوجته يتلقيان التهاني بعد رئاسته "العدالة والتنمية" (أغسطس/2014/الأناضول)

+ الخط -

قدّر لي أن أَحلَّ ضيفاً على المؤتمر العام الاستثنائي لحزب العدالة والتنمية التركي (الحاكم)، والذي انتخب فيه أحمد داود أوغلو رئيساً للحزب، خلفاً لطيب رجب أردوغان الذي انتخب رئيساً للبلاد الشهر الجاري، وسلّم الراية لأوغلو الذي كان وزيراً للخارجية، وأصبح اليوم رئيساً للوزراء.

ولولا أن النظام الأساسي لحزب العدالة والتنمية لا يسمح لرئيسه بأكثر من ثلاث ولايات متتالية، لما غادر أردوغان قيادة الحزب اليوم، كما أن القانون التركي ينصُّ على أن رئيس الدولة ينبغي أن يكون محايداً، بمعنى أنه لا يستطيع أن يبقى حتى عضواً في حزبه في أثناء فترة رئاسته.

تعتني سطور هذا المقال بتعامل تجربة أردوغان وحزبه مع مسألة الهوية والخلفية الإيديولوجية الإسلامية لهما، وما يمكن للحركات الإسلامية العربية أن تتعلّمه من هذه التجربة.

ومن دون التورط في فخ التأريخ لأردوغان ورفاقه من مؤسسي "العدالة والتنمية"، وخصوصاً الرئيس السابق، عبد الله غل، فإن جلَّ المؤسسين جاؤوا من التيار الإسلامي السياسي الذي أسسه رئيس الوزراء الأسبق، نجم الدين أربكان.

فمن حزب "السلامة الوطنية" إلى "الرفاه" فـ"الفضيلة"، تنقّل أولئك المؤسسون وصولاً إلى "العدالة والتنمية"، فشغلوا المناصب السياسية، الوطنية والبلدية، وعايشوا مرارة الانقلابات على تلك التجارب كلها، وأودع بعضهم السجون، كأردوغان نفسه عام 1998، عندما كان رئيساً لبلدية إسطنبول، ممثلاً عن حزب الرفاه.

غير أن حل القضاء المسيّس، وبدعم من الجيش التركي، حزب الفضيلة عام 2001، أقنع أردوغان وزملاءه بأنه لا يمكنهم الاستمرار على النهج نفسه، خصوصاً لناحية النكهة الإسلامية الفاقعة في ظل نظام معادٍ لكل ما هو إسلامي، فما كان منهم إلا أن افترقوا عن أستاذهم، أربكان، وأسسوا حزب العدالة والتنمية في العام نفسه، وباقي القصة معروف عن إنجازاتهم الانتخابية منذ عام 2002، ونجاحات أردوغان في تحجيم نفوذ المؤسسة العسكرية وكف يد القضاء، إلى حد ما، عن لعب دور سياسي، على الرغم من أن عملاً كثيراً ما زال يتعيّن على حزب العدالة والتنمية فعله في هذا السياق، وهو ما كشفت عنه أحداث ما يسميه أردوغان وحزبه "التنظيم الموازي" في الدولة، التابع للداعية التركي، المقيم في الولايات المتحدة، محمد فتح الله غولن.

خلال حضوري، قبل أيام، المؤتمر العام الاستثنائي لحزب العدالة والتنمية، حاولت أن أفهم كيف نجح أردوغان والحزب في تحقيق كل هذه الإنجازات، وهم ذوو مرجعيات إسلامية، في بلد امتهن جيشه لعبة الانقلابات، وامتهن قضاؤه دور "المحلّل" لها، وامتهنت نخبته تبريرها، وفوق هذا وذاك جمعهم كلهم عداؤهم للظاهرة الإسلامية عموماً.

في السياق الجيو ـ سياسي، استفاد حزب العدالة والتنمية، وعلى عكس غيره من التيارات ذات الجذور الإسلامية، من هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن. فإدارة الرئيس الأميركي، جورج بوش، حينها، والتي أطلقت ما سمتها "الحرب على الإرهاب"، كانت تجاهد لإقناع العالم الإسلامي بأن هذه "الحرب" ليست على الإسلام، خصوصاً بعد تصريحات بوش عن "حرب صليبية".

حينها، أطلقت تلك الإدارة مساعي لـ"كسب العقول والقلوب" في العالم الإسلامي، ووجدت في وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002 في تركيا الحليفة فرصة سانحةً، لتقول إن حربها ليست مع الإسلام، وإنما هي مع "الإرهاب" الذي يتدثّر بلبوس الإسلام.

وهكذا، كان أن ضغطت إدارة بوش، حينئذٍ، على الجيش التركي للإحجام عن القيام بأي مغامرات انقلابية، ومارست ضغوطاً كبيرة على الاتحاد الأوروبي لقبول عضوية تركيا فيه، وفي المقابل، فإن تركيا الجديدة عزّزت، إلى حد ما، الدعاية الأميركية، ووفّرت لها أيضاً وجهاً إسلامياً حليفاً، خصوصاً في أفغانستان.


هذا في ما يتعلق بالسياق السياسي العام خارجياً، وهو إن وفّر مساحة للتنفس للعدالة والتنمية، إلا أنه لا يجيب كلياً على القضية أعلاه في ما يتعلق بكيفية تحقيقه كل إنجازاته اليوم. إذ لا بد من أن يكون ثمة بُعد داخلي، أيضاً، سمح له بتحصين هذه التجربة التي سمحت بتحقيق هذه الإنجازات.

زيارتي هذه لتركيا ليست الأولى، فقد دُعيت إلى مؤتمر آخر لشباب حزب العدالة والتنمية في صيف 2012. يومها، كانت في ذهني صورة نمطية عن ذلك "الشباب المتديّن" الذي سألقاه. غير أني فوجئت بأن شباب الحزب، كما المجتمع التركي، خليط من التناقضات والهويات المتعددة. فوجئت بشباب متديّن، وآخر محافظ، وثالث متحرّر، بمعاييرنا الشرقية.

وفوجئت بشابات غير محجبات، كما فوجئت بأن ليس كل قياديي العدالة والتنمية وأعضائه البرلمانيين متدينين. حينها، استوعبت أني جئت بصورة نمطية منبعها التيار الإسلامي العربي الشرقي، لكنها لا تنطبق على تجربة "العدالة والتنمية" التركي. فحزب العدالة والتنمية تجسيد أقرب للواقع التركي، بكل تجلياته وهوياته الفرعية والثقافية والإيديولوجية.

وبكلمة، هو أكثر تمثيلاً للواقع التركي ممّا تمثله الحركات الإسلامية العربية الشرقية في مجتمعاتها. ففي حين يستوعب "العدالة والتنمية" ما استطاع من مكوّنات مختلفة في المجتمع، على أساسٍ من التوافق على الحدود الدنيا، تجد أن الحركة الإسلامية العربية الشرقية أقرب إلى منطق الحزب الشمولي المؤدلج الذي لا يقبل إلا بالمتماثلين قيمياً وأخلاقياً ومسلكياً وشكلياً، وهو ما يعزله في المحصّلة عن سياقه المجتمعي العام، وإن كانت تلك المجتمعات ليست بالضرورة مناقضة لمنظومتها القيمية العليا عموماً.

يشتهر عن أردوغان قوله إن حزبه ليس دينياً، بل هو أقرب إلى صيغة الأحزاب الأوروبية المحافظة، وواضح أن في ذلك مقداراً كبيراً من الدقة، غير أن ذلك لا ينفي أن الصبغة والنكهة الإسلامية حاضرة بقوةٍ، في خطاب قادة الحزب. فخلال المؤتمر الاستثنائي الأخير للحزب، تستطيع، وبكل سهولة، تلمّس جذور الخطاب الإسلامي لدى كلٍّ من أردوغان وأوغلو في خطابيهما، غير أن هذا الخطاب لا يغفل، أيضاً، تمجيد الهوية التركية وموضَعة الحقبة العثمانية ضمنها، بدل أن تكون معارضة لها أو مضادة لها. قارن ذلك بخطاب الحركات الإسلامية العربية الشرقية التي لا تزال إلى اليوم تعاني من مرارات صراع الهوية الوطنية مع الهوية الإسلامية الجامعة في أطرها.

باختصار، صحيح أن لكل تجربة سياقاتها وخصوصياتها، ومن الدقة القول إنه لا يمكن إسقاط تجربة في سياق ما على تجربة أخرى في سياق مختلف، غير أن هذا لا يعني أنه لا توجد إمكانية وفرص للاستفادة من التجارب المختلفة. أهم ما يمكن أن تتعلّمه الحركة الإسلامية العربية الشرقية من حزب العدالة والتنمية هو أن تنفتح على مجتمعاتها وبكل مكوناتها. معظم مجتمعاتنا العربية متدينة ومحافظة بفطرتها، غير أنه لا يمكن قياس تديُّن ومحافظة كل مكوناتها بمسطرة واحدة.

وثمة نقطة أخرى، هي موضع جدل داخل الحركة الإسلامية العربية الشرقية اليوم، وتتمثّل بضرورة فصل فضاء العمل السياسي عن فضاء العمل الدعوي. هذه ليست دعوة إلى فصل الديني عن السياسي، كما قد يتوهّم بعضهم، وإنما هي دعوة إلى تمييز مجال ارتكاز وتخصص كل منهما.

فإذا كانت الجماعة الدعوية عاجزةً عن استيعاب الهويات الفرعية المختلفة، خصوصاً في جانبها المظهري والسلوكي والأخلاقي، فإن الفضاء السياسي لا يُعنى كثيراً بهذه الشكليات، ما دام أن ثمة توافقاً على الأهداف والمنطلقات. هذا ما نجح به "العدالة والتنمية" التركي، وما زالت تفشل فيه الحركة العربية الإسلامية الشرقية.

فعلى الرغم من أن الأخيرة قد شكلت أحزاباً، إلا أنها بقيت، إلى حد كبير، رهينة للإطار الصارم للجماعة الدعوية التي تقف خلفها، ولا يغني هنا أبداً أن بعضها حاولت تقمّص العدالة والتنمية التركي، عبر اشتقاق أسماء أحزاب من اسمه، فالإطار لا يغني عن الجوهر.   

دلالات