ليبيا ... ثورة عالقة
بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على ثورة 17 فبراير الليبية، ومقتل معمر القذافي، يُبعثُ العقيد من جديد، في ثوب الجنرال المتقاعد خليفة حفتر. استطاع هذا أن يرسم، ببراعةٍ، صورة مستشفّة لقائده المنشق عنه، كما يستعرض، الآن، صورة الفارس القادم على صهوة الخلاص. والعودة بالجرح الذي أوغره القذافي في قلب حفتر لا تجعله يحقد على ذكرياته المرة معه، فحسب، وإنّما تخرج مزيجاً من الشحنات المدمرة في صراعه من أجل الحصول على مجد مفقود.
وكواحد من مجموعة الضباط الأحرار الذين خططوا مع القذافي لانقلاب عام 1969، ضد الملك إدريس السنوسي، يجد الجنرال حفتر نفسه يتمتع بشرعيةٍ تاريخية لمشاركته في ذلك الانقلاب. كما أنّه يكتسب شرعية أخرى، بصفته أحد أعضاء المجموعة التي قادت المجلس الوطني الانتقالي، إبان ثورة السابع عشر من فبراير. ويحيط حفتر نفسه بانتمائه، ومجموعته، إلى أصول قبائل كبيرة، ما يعني أنّه يعوّل على هذا الثقل القبلي.
في محاولته الانقلابية منتصف مايو/ أيار الماضي، جاء خليفة حفتر، مبعوث الدولة العميقة، حاملاً لواء الكرامة التطهيرية، وهي دعوة يحملها الذين يرون في الديمقراطية والثورة على عهود الظلام رجساً يجب التطهير منه، وكأنّ أربعة عقود من الديكتاتورية العسكرية ليست كافية.
وإن كان إرث الديكتاتورية في بلاد ثورات الربيع العربي ثقيلاً، فإنّ التعبير عن ليبيا وثورتها ليس متاحاً بالقدر الذي يتيسر فيه الحديث عن ثورتي تونس ومصر مثلاً. بسبب أنّ القذافي عمل، في أربعة عقود كاملة، على تأسيس مجموعة اللجان الثورية الصلبة، المكونة من فرق ومكاتب ولجان مناطق، بحرسها الثوري، على اختلاف درجاته وتراتبيته. وهذه اللجان، بتكوينها المتسلسل من وكلاء ومدراء ومشرفين وموظفين وكتائب أمنية، استطاعت أن تحكم المجتمع الليبي، بوصولها إلى القيادات الشعبية واختراقها العوائل والأسر. وكانت بمثابة حكومة خفية موازية للحكومة المعلنة، أي أنها "دولة داخل دولة"، تنظمها أجهزة استخباراتية وأمنية، بتمويل وسيطرة وتحكّم من أشخاصٍ وجماعاتٍ قويةٍ، تمتلك من الإمكانات ما يكفي لتحريك فئات أخرى تنفذ لها برامجها.
كان هدف القذافي فرضَ العزلة التي طوّق بها شعبه فعلاً، وفرضَ نوعٍ من الحصار الثقافي. فالكل محبوسة أنفاسه وكلماته ونبضاته. ونتيجة لهذا الكبت، عمل الشعب على تعويد نفسه على تحمّل كل أصناف الاستبداد، ذي المضمون القومي بشكل عام، والقَبلي بشكل خاص. فالقومي، لأنّ النظام الليبي نتاج مرحلة انقلابات عربية تآلف الناس في ما بعد على عقائدها وكأنّها وحي مُنزل وتعوّد على ما تبثّه من ثقافة استبدادية. والقبلي، نتيجة التركيبة العشائرية التي توقّر زعيم القبيلة، وتستقوي بعضها بالبعض على ما دونها من قبائل وعشائر. ومع الافتقار إلى القيادة الموحدة، ارتدّ الليبيون إلى الولاءات القَبَلية والإقليمية، على حساب الهوية الوطنية المشتركة.
كرّست هذه العوامل للجهل العام بليبيا، وبفعالية ونجاعة، تأثيرات الكبت، وما ينتجه من حراكٍ، لم يتوقع أحد أن يكون بهذه البسالة. خرج الشعب متمرداً نافضاً عن ظهره خضوع أكثر من أربعين عاماً، غير مبالٍ بوعيد القائد الذي أنذر بأنه سيجعل من ليبيا جهنم حمراء. وهذه هي العوامل نفسها التي أبعدت ليبيا فعلياً عن المحيط العربي، على الرغم من انتمائها إلى جامعة الدول العربية، وعن المحيط الأفريقي، على الرغم من مناداة زعيمها بالولايات المتحدة الأفريقية، وتنصيب نفسه ملك ملوك أفريقيا. وعلى الرغم من حضور القضايا الثقافية والسياسية لدول المغرب العربي في الوعي العربي، إلّا أن ليبيا نأت بنفسها، على الرغم من قربها الجغرافي، فكانت قضاياها معتمة وأخبارها ضبابية. لم تعرف المجتمعات العربية عن ليبيا القذافي غير العقيد نفسه، وبعض ملامح البطل عمر المختار الذي خلّدته السينما العالمية وبطلها الأميركي، أنتوني كوين، في فيلم "أسد الصحراء".
ليبيا الآن عالقة في منطقة رمادية، ليست ديمقراطية كاملة وليست دكتاتورية، أفرزتها عوامل أثّرت سلباً على احتمالات تحقيق الديمقراطية، وهي الحرب الأهلية القبلية. وعلى الرغم من الانتخابات البرلمانية الحالية، إلّا أنّه بوجود مؤسسات الدولة الضعيفة، وانعدام الأمن عادة ما يجدها العسكر فرصةً لاغتيال الزخم للتغيير الديمقراطي.
دفع الليبيون ثمناً باهظاً، وما التداعيات، اليوم، إلّا ما عمل عليه القذافي في مواجهة الثوار، بتحويل حملة المقاومة المدنية إلى صراع مسلح. وشرارة العمل المسلح التي أطلقها القذافي في مجتمع قبلي، يضم أكثر من 120 قبيلة، بما في ذلك 30 قبيلة تضم أعداداً وموارد كبيرة، وهذا ما عمل على إعادة السيناريو السلبي، وهو العمل العسكري ومحاولة الاستيلاء على السلطة.
تأثرت ليبيا بما حدث في مصر، وما زالت، وكان في وسع مصر أن تقدم لليبيا نموذجاً ناجحاً في التحوّل الديمقراطي، لولا وأد الديمقراطية فيها، ما يعني وضع عائق مهمٍ في وجه ليبيا، بفرض الحرب الأهلية، أو الديكتاتورية العسكرية. ولو أخذنا في الاعتبار افتقار ليبيا للخبرة الديمقراطية، فإنّ النتيجة المحتملة معاناة الشعب الليبي، جراء توقه لديمقراطية عشقها ولم ينلها بوجود مؤسسات ضعيفة وعوامل قبلية شائكة.