02 نوفمبر 2024
ليبيا.. من حركة الفاتح إلى فوضى البحث عن دولة
مرّت أخيراً الذكرى الثامنة والأربعون لحركة الفاتح من سبتمبر/ أيلول 1969 ولم تجد أشباح هذه الحركة الانقلابية وأيتامها من يستعيد معها تلك التجربة، بوعودها وآلامها ومآسيها وخيباتها. آنذاك، سيطر الرائد معمر أبو منيار القذافي، مع نفر من رفاقه الضباط على الحكم في ليبيا، وألغى النظام الملكي، وأعلن الجمهورية تحت شعار "إبليس ولا إدريس"، ورفّع نفسه إلى رتبة عقيد، وانصرف إلى إدارة صراعاته.
وكان القذافي، في أثناء إدارته شؤون البلاد والعباد، يبدو كأنه مهووس بالفكر والمفكرين، ربما لضحالة معارفه التي لم تتجاوز، تعليمياً، المرحلة الثانوية. واشتُهر عنه، في بداية تكوينه السياسي، شغفه بكتب قسطنطين زريق وميشال عفلق وبعض الكتب الناصرية. وقد فاجأ الناس في سنة 1976 بإصدار "الكتاب الأخضر" الذي اعتبره النظرية الثورية الثالثة التي تخطت الرأسمالية والاشتراكية معاً. وهذا الكتاب الذي صاغه السوداني أبو بكر كرار تلفيق ساذج من الأفكار المختلفة التي تبارزت مع الفكر الرأسمالي التقليدي، ومع الفكر الاشتراكي بنسخته السوفييتية. وقد تدافع مفكرون عرب وأجانب لجني المال من القذافي من خلال ترويج هذا الكتاب، منهم الفرنسي روجيه غارودي الذي عقد أكثر من ندوة في باريس للكلام على هذا الكرّاس الذي وصف نفسه أنه "الطريق الثالث للثورة العالمية". وقد راق القذافي اهتمام المفكرين به وبكتابه، فأصدر مجموعة قصصية "القرية القرية الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء"، فتداعى كتّاب عرب إلى الترحيب بالكتاب، وعقدوا أكثر من ندوة، منها واحدة في مدينة سرت تحت شعار "القذافي كاتباً ومبدعاً"، شارك فيها، حضوراً أو كتابة، كل من إبراهيم الكوني وواسيني الأعرج وعز الدين ميهوبي ومصطفى قباج وميرال الطحاوي وطلحة جبريل وحسن حميد وإدريس الخوري وبشير القمري وعبد القادر الحصني وشاكر نوري وعبد الله أبو هيف وياسين رفاعية. وصدرت كتابات تقريضية كثيرة، ساهم فيها رئيس اتحاد الكتاب المصريين السابق، محمد سلماوي، الذي اختير أميناً عاماً لاتحاد الأدباء والكتاب العرب، وسلم القذافي درع هذا الاتحاد في سنة 2009 باعتباره كاتباً كبيراً. ثم أطنب في كيل المدائح للقذافي كثيرون، أمثال رئيس اتحاد الكتاب العرب في دمشق (السابق)، حسين جمعة، والشاعر الأردني محمد المقدادي والمخرج الأردني صلاح أبو هنود وغيرهم أمثال وجيه فانوس وياسين الأيوبي (لبنان) وعلي عقلة عرسان وسمر روحي الفيصل (سورية) وسمير الجمل وسمير سرحان (مصر) وعبد الرحمن مجيد الربيعي (العراق) ومحيي الدين صابر (السودان) والصافي سعيد (تونس). ولم يلبث الروائي الليبي إبراهيم الكوني أن اقترح على العقيد تأسيس جائزة عالمية للأدب باسم "جائزة أفريقيا العالمية للآداب"، غير أن الناقد المصري صلاح فضل دعا إلى تسمية هذه الجائزة باسم "جائزة القذافي العالمية للآداب" التي منحت للروائي الإسباني المشهور خوان غويتسولو، والذي بادر إلى رفضها فوراً، فذهبت إلى جابر عصفور (قيمتها 150 ألف يورو).
جعل القذافي من نفسه حقلاً ملائماً لصائدي الثروات، فتدفق عليه مئات من "مثقفي" العالم العربي، ومن صحافيي العالم. وأعجبته هذه اللعبة، فراح ينثر ثروات بلاده على مشروعات كثيرة هنا وهناك، وأنشأ مؤسساتٍ ومجلاتٍ ومراكز بحثية لم تكن كلها بلا أثر. ففي بيروت أنشأ معهد الإنماء العربي الذي صدرت عنه مجلات عدة، منها "الفكر العربي" و"الفكر العربي الاستراتيجي"، ودعم صحفاً مختلفة في بيروت وتونس ومصر والمغرب ولندن وباريس، وكان لمجلة "الوحدة" شأن ثقافي مهم في سبعينيات القرن المنصرم، هذا إذا لم نذكر "الشاهد" و"الموقف العربي" و"الكفاح العربي" و"السفير" وغيرها. ولا ريب في أن هذا الدعم إبّان المرحلة الأولى للقذافي (1969-1975) عاد ببعض الإيجابيات على الحياة الثقافية العربية. ومَن يُراجع اليوم قوائم الأسماء التي عملت في المؤسسات البحثية والإعلامية التي كانت ليبيا وراء إنشائها يُدهش لتنوعها واختلافها وتقلبها معاً؛ فكثيرون من معارضي القذافي اليوم أكلوا من معجنه ما طاب لهم الأكل بالأمس. غير أن مرحلة ما بعد النفط (1975 فصاعداً) التي تساقطت ثمارها على القذافي في صورة ثرواتٍ هائلةٍ جعلته ينفق المليارات على المنافقين السياسيين في شتى أنحاء العالم العربي، من المغرب إلى تونس والسودان ومصر وتشاد وفلسطين وغيرها. ويتذكّر اللبنانيون سخاء صالح الدروقي في الصرف على قوى سياسية في لبنان في أواخر سبعينيات القرن العشرين. ومع ذلك لم يجد هذا الكولونيل من يُرسل إليه التحية في محنته ما قبل مقتله، مع أنه، بعد تسوية قضية لوكيربي، انهمك في استقبال رؤساء دول العالم الذين وقفوا في الطابور للسلام عليه، فتقاطر على ليبيا الألماني غيرهارد شرودر والبريطاني توني بلير والفرنسيان جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، وقبّل الإيطالي بيرلسكوني يده أمام مراسلي محطات التلفزة العالمية، وزارته الوزيرة الأميركية كوندوليزا رايس ومعها مساعدها ديفيد ولش، وقام القذافي بجولة على البرتغال وفرنسا وإيطاليا التي استقبل فيها كزعيم مميز.
نعم، تميزت ليبيا في عهد القذافي بالمغامرات السياسية غير المحسوبة، وبالتحولات المفاجئة في المواقف، وبالسذاجة الإعلامية والفكرية، وتميز القذافي نفسه بالاستعراضية المشهدية والسلوك التبذيري... إلخ. لكن هذه الحال لم تكن هي نفسها حال الشعب الليبي ونخبه الفكرية المبدعة.
هذه هي ليبيا
ارتبط اسم ليبيا في تاريخها السياسي المعاصر باسم عمر المختار الذي أعدمه الجنرال الإيطالي غرازياني في 16/9/1931، أي قبل 86 عاماً. وقد أنجز المخرج السوري العالمي، مصطفى العقاد، فيلماً أخاذاً عنه بتمويل من معمر القذافي نفسه، علاوة على تمويله فيلم "الرسالة"، وهما من أشهر الأفلام العربية التي كان لها شأن مهم عالمياً. وقد اشتُهر الشعب الليبي بمقاومته الاستعمار بشجاعة فائقة؛ فمنذ 1949 حين قرّرت الأمم المتحدة فرض الحماية البريطانية على إقليم برقة، والحماية الإيطالية على إقليم طرابلس، والحماية الفرنسية على إقليم فزّان، أي توزيع الثروات على لصوص الاستعمار القديم، لم يتوقف الليبيون عن المقاومة العنيفة والتظاهرات الصاخبة والاضطرابات الشاملة، الأمر الذي أرغم الأمم المتحدة على الاعتراف باستقلال ليبيا الموحدة. واتحدت الأقاليم الليبية في 24/12/1951 في إطار مملكة دستورية، يحكمها محمد إدريس بن المهدي السنوسي.
ليبيا هي أفريقيا في التاريخ القديم التي خرج منها شيشنق الأول، ليتسلم حكم مصر، ويؤسّس الأسرة الفرعونية الثانية والعشرين، والتي قامت فيها واحدةٌ من أهم مدائن العالم القديم، أي قورينيا التي ازدهرت فيها الثقافة الهلينية والرومانية أيما ازدهار، وقدّمت للبشرية أحد تلامذة المسيح، أي سمعان القوريني (وليس القيرواني بحسب الترجمة السائدة للإنجيل)، وهي التي أطلقت مناضلين وأعلاماً في الثقافة السياسية، منهم الصادق النيهوم وعلي فهمي خشيم وإبراهيم الكوني وأحمد إبراهيم الفقيه وخليفة التليسي (على اختلاف مقاماتهم الأدبية)، ومحمود المغربي (أحد مؤسسي حركة فتح) وفتحي الشقاقي (مؤسس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين) وبشير السعداوي وزهير السعداوي وكامل عياد ومحمد طارق الأفريقي (أحد مجاهدي فلسطين) وصالح مسعود أبو يصير الذي استشهد عندما أسقطت إسرائيل الطائرة التي كانت تقله في 1973، والممثل السوري الليبي الأصل ياسين بقوش والممثلة السورية نجاح حفيظ أيضاً.
استقبل العالم العربي حركة الفاتح من سبتمر/أيلول 1969 بفرح، إذ اعتبرها استمراراً للناصرية، ورداً على هزيمة 1967. واستقبلت ليبيا ملايين المصريين والتونسيين والفلسطينيين والسوريين واللبنانيين والمغاربة والسودانيين والأفارقة، ليعملوا في أرضها، ودفعت أموالاً هائلة للمقاومة الفلسطينية وللحركة الوطنية اللبنانية في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية وإبّان القتال ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان (معظم هذه الأموال لم يسقط في مكانه الصحيح). ومع ذلك لم يحفظ العرب من ليبيا إلا كلمتين: "قعمِز" و"الله غالب".
السياسة والإرهاب
التقى القذافي المنشق الفلسطيني صبري البنا (أبو نضال) أول مرة في 1984، ومنحه مكاناً آمناً في ليبيا. وتحملت ليبيا في حقبة ثمانينيات القرن المنصرم المسؤولية عن تفجير مقهى لابيل في برلين سنة 1986، وعن تفجير طائرة بان أميركان فوق مدينة لوكيربي الاسكتلندية سنة 1988، وعن تفجير طائرة "يوتا" الفرنسية فوق النيجر سنة 1989 التي كان يُعتقد أن محمد المقريف، الخصم اللدود للقذافي، موجوداً فيها. وكان الحكم الليبي مسؤولاً عن اختطاف المعارض ووزير الخارجية السابق، منصور الكيخيا، وهو من أصل سوري، في القاهرة واغتياله، وكذلك اغتيال المعارض وعضو مجلس قيادة الثورة السابق، عمر المحيشي، وغيرهما. والحقيقة أن هذه المسؤولية تتوزّع على آخرين في الوقت نفسه، فالمخابرات المصرية هي التي اعتقلت الكيخيا وسلمته إلى مدير المباحث الليبية، محمد المصراتي. وسلم الملك الحسن الثاني عمر المحيشي إلى المخابرات الليبية لقاء 200 مليون دولار، وقتله سعيد راشد الذي قُتل في بداية الانتفاضة الليبية.
أما قصة اختفاء الإمام موسى الصدر، ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر، فقد صارت مكشوفة (ومسكوتاً عنها في الوقت نفسه)، بعدما فضحها الكاتب الأميركي، كاي بيرد، في كتابه "الجاسوس النبيل" استناداً إلى معلومات استخبارية متينة، مصدرها رجل الاستخبارات الأميركية، روبرت إيمز، تقول إن العقيد القذافي دعا الإمام الصدر والسيد محمد علي بهشتي إلى لقاء مشترك في ليبيا، تحت رعايته لحل الخلافات بينهما في شأن قيام دولة دينية في إيران (ولاية الفقيه). وقد استنكف بهشتي عن القدوم إلى ليبيا، وطلب إلى القذافي احتجاز الإمام الصدر لديه، لأنه عميل للغرب، ويشكل خطراً على الثورة في إيران. وبناء على ذلك، احتُجز الصدر في أحد السجون الليبية عدة أشهر. وحين عاد بهشتي إلى إيران مع الإمام الخميني، حاول ياسر عرفات التوسط لإطلاق الصدر، إلا أن القذافي عاود الاتصال بمحمد بهشتي عارضاً عليه الأمر، فأصر الأخير على أن الصدر يشكل خطراً مباشراً، لا على الثورة في إيران فحسب، بل على حياة الخميني أيضاً. وهكذا أُعدم الصدر ودفن في مكان مجهول.
وفي هذا السياق، بات معروفاً أن معمر القذافي كان يخشى الإسلاميين خشية كبيرة، فأقام حلفاً مع الاستخبارات التونسية والمصرية، بموافقة صريحة من زين العابدين بن علي وحسني مبارك، وكان يصرف مبلغاً شهرياً لابن علي ودفعات مالية لمبارك ومدير المخابرات المصرية عمر سليمان أيضاً. فالقذافي كان يستخدم المال في تنفيذ سياسته ضد خصومه، وهذه مسألة شائعة لدى معظم الدول، ولم ينفرد بها القذافي. وقد اشتُهرت كثيراً الحادثة المعروفة، حين طلب القذافي من حركة فتح اغتيال المعارض (وعضو مجلس الثورة السابق) عبد المنعم الهوني في القاهرة فرفضت. وكان هذا الموقف سبباً في غيظه منها. وفي 1982، خلال حصار بيروت، دعا القذافي المقاتلين الفلسطينيين إلى الانتحار وعدم الخروج من المدينة، فرد عليه ياسر عرفات بالقول: تفضل وانتحر معنا.
هذا هو القذافي
يروي عنه رفاقه الأوائل إنه نشأ فقيراً مستضعفاً، وعاش بداياته الأولى بسيطاً وذا طموح وتطلع. وقد قرأ، في مرحلة شبابه الأول، ميشال عفلق وقسطنطين زريق والكتب الناصرية، وصار جمال عبد الناصر ملهمه التاريخي. ولا شك في أن القذافي كان يتمتع، خلال دراسته العسكرية، ببعض مزايا القيادة، فتمكّن من أن يستقطب ضباطاً شباناً من ذوي النزعة الوطنية المعادية للوجود الإنكليزي والأميركي في ليبيا، ومن ذوي الانتماء القومي العربي معاً. لكنه لم يلبث أن اختلف مع كثيرين من رفاقه، أمثال عامر الدغيّث، المسؤول الأول لحزب البعث في ليبيا، والذي قُتل في أحوال شبه غامضة لاحقاً.
بدّد القذافي ثروة بلاده على أمورٍ لا تستحق النضال من أجلها، وسلم مقاليد السلطة لأولاده والمقربين منه، فعاثوا فساداً مفرطاً، وألغى الحياة السياسية في ليبيا تماماً تحت شعار "من تحزّب فقد خان". وللعلم، كان في ليبيا، قبل حركة الفاتح من أيلول/ سبتمبر 1969 أحزاب كثيرة كالبعث والقوميين العرب والشيوعيين ومجموعات تروتسكية، علاوة على الليبراليين والإخوان المسلمين والناصريين. لكن القذافي صادر ذلك كله لمصلحة أفكار "الكتاب الأخضر" الذي تحول نكتة جارية، خصوصاً كلامه عن الفرق بين المرأة والرجل، فهو يقول: الفرق أن المرأة تحيض والرجل لا يحيض! ولم يسلم القذافي من سيل النكات التي شملته، مثلما شملت غيره من الرؤساء العرب، منها أنه حين سئل عن تزايد أسباب الطلاق في ليبيا، أجاب: السبب الأول هو الزواج. وقوله إنه لولا الكهرباء التي أنعمت "ثورة الفاتح" بها على الشعب الليبي لكان الليبيون يشاهدون التلفاز اليوم في العتمة.
الزمن الدائري
هل تعود ليبيا موحدة كما كانت في عهد القذافي؟ ربما. وهل تتحول إلى دولة فدرالية مؤلفة من ولايات فزّان وبرقة وطرابلس، أي إلى اتحاد قبائل؟ ربما أيضاً، غير أن هذه الفدرالية ستتناهشها من الخارج، وإلى أمد بعيد الشركات الكبرى ودول الاستعمار القديم، وستتناوشها من الداخل سيوف العشائر وبنادقها المستقوية، في الوقت نفسه، بالخارج على الطريقة العراقية واليمنية والسورية. وكانت جموع من العرب استبشرت، منذ ربيع 2011، ببعض التحولات الجارية في دول عربية مثل ليبيا وتونس ومصر ثم سورية. لكن الإنسان العربي يخشى، أكثر ما يخشى، فوضى السلاح، وسيطرة المجموعات المسلحة على الحياة اليومية في البلدان التي اندلعت فيها الصراعات الدموية. وهذه الفوضى ربما تجرّ الأوضاع نحو قيام شخص قوي، أو مجموعة من القوى السياسية بقيادة شخص قوي، بالسيطرة على البلاد، وإلغاء المجموعات السياسية المسلحة الأخرى، على غرار ما فعلته حركة طالبان في أفغانستان، ثم فرض نظام استبدادي جديد، لأن الاستبداد في البلاد التي تعاني الفوضى المسلحة أفضل من الفوضى الدائمة. وبحسب مفكرين سياسيين، إن نهاية فظيعة للفوضى خير من فظاعة بلا نهاية، خصوصاً أن المجتمع المجرّد من دولته كالعراق وليبيا لا يُنتج أي ديمقراطية، لأن من شروط تأسيس الديمقراطية وجود دولة ومجتمع مدني فاعل ووجود مواطنين ديمقراطيين، وهو ما تفتقده ليبيا.
وكان القذافي، في أثناء إدارته شؤون البلاد والعباد، يبدو كأنه مهووس بالفكر والمفكرين، ربما لضحالة معارفه التي لم تتجاوز، تعليمياً، المرحلة الثانوية. واشتُهر عنه، في بداية تكوينه السياسي، شغفه بكتب قسطنطين زريق وميشال عفلق وبعض الكتب الناصرية. وقد فاجأ الناس في سنة 1976 بإصدار "الكتاب الأخضر" الذي اعتبره النظرية الثورية الثالثة التي تخطت الرأسمالية والاشتراكية معاً. وهذا الكتاب الذي صاغه السوداني أبو بكر كرار تلفيق ساذج من الأفكار المختلفة التي تبارزت مع الفكر الرأسمالي التقليدي، ومع الفكر الاشتراكي بنسخته السوفييتية. وقد تدافع مفكرون عرب وأجانب لجني المال من القذافي من خلال ترويج هذا الكتاب، منهم الفرنسي روجيه غارودي الذي عقد أكثر من ندوة في باريس للكلام على هذا الكرّاس الذي وصف نفسه أنه "الطريق الثالث للثورة العالمية". وقد راق القذافي اهتمام المفكرين به وبكتابه، فأصدر مجموعة قصصية "القرية القرية الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء"، فتداعى كتّاب عرب إلى الترحيب بالكتاب، وعقدوا أكثر من ندوة، منها واحدة في مدينة سرت تحت شعار "القذافي كاتباً ومبدعاً"، شارك فيها، حضوراً أو كتابة، كل من إبراهيم الكوني وواسيني الأعرج وعز الدين ميهوبي ومصطفى قباج وميرال الطحاوي وطلحة جبريل وحسن حميد وإدريس الخوري وبشير القمري وعبد القادر الحصني وشاكر نوري وعبد الله أبو هيف وياسين رفاعية. وصدرت كتابات تقريضية كثيرة، ساهم فيها رئيس اتحاد الكتاب المصريين السابق، محمد سلماوي، الذي اختير أميناً عاماً لاتحاد الأدباء والكتاب العرب، وسلم القذافي درع هذا الاتحاد في سنة 2009 باعتباره كاتباً كبيراً. ثم أطنب في كيل المدائح للقذافي كثيرون، أمثال رئيس اتحاد الكتاب العرب في دمشق (السابق)، حسين جمعة، والشاعر الأردني محمد المقدادي والمخرج الأردني صلاح أبو هنود وغيرهم أمثال وجيه فانوس وياسين الأيوبي (لبنان) وعلي عقلة عرسان وسمر روحي الفيصل (سورية) وسمير الجمل وسمير سرحان (مصر) وعبد الرحمن مجيد الربيعي (العراق) ومحيي الدين صابر (السودان) والصافي سعيد (تونس). ولم يلبث الروائي الليبي إبراهيم الكوني أن اقترح على العقيد تأسيس جائزة عالمية للأدب باسم "جائزة أفريقيا العالمية للآداب"، غير أن الناقد المصري صلاح فضل دعا إلى تسمية هذه الجائزة باسم "جائزة القذافي العالمية للآداب" التي منحت للروائي الإسباني المشهور خوان غويتسولو، والذي بادر إلى رفضها فوراً، فذهبت إلى جابر عصفور (قيمتها 150 ألف يورو).
جعل القذافي من نفسه حقلاً ملائماً لصائدي الثروات، فتدفق عليه مئات من "مثقفي" العالم العربي، ومن صحافيي العالم. وأعجبته هذه اللعبة، فراح ينثر ثروات بلاده على مشروعات كثيرة هنا وهناك، وأنشأ مؤسساتٍ ومجلاتٍ ومراكز بحثية لم تكن كلها بلا أثر. ففي بيروت أنشأ معهد الإنماء العربي الذي صدرت عنه مجلات عدة، منها "الفكر العربي" و"الفكر العربي الاستراتيجي"، ودعم صحفاً مختلفة في بيروت وتونس ومصر والمغرب ولندن وباريس، وكان لمجلة "الوحدة" شأن ثقافي مهم في سبعينيات القرن المنصرم، هذا إذا لم نذكر "الشاهد" و"الموقف العربي" و"الكفاح العربي" و"السفير" وغيرها. ولا ريب في أن هذا الدعم إبّان المرحلة الأولى للقذافي (1969-1975) عاد ببعض الإيجابيات على الحياة الثقافية العربية. ومَن يُراجع اليوم قوائم الأسماء التي عملت في المؤسسات البحثية والإعلامية التي كانت ليبيا وراء إنشائها يُدهش لتنوعها واختلافها وتقلبها معاً؛ فكثيرون من معارضي القذافي اليوم أكلوا من معجنه ما طاب لهم الأكل بالأمس. غير أن مرحلة ما بعد النفط (1975 فصاعداً) التي تساقطت ثمارها على القذافي في صورة ثرواتٍ هائلةٍ جعلته ينفق المليارات على المنافقين السياسيين في شتى أنحاء العالم العربي، من المغرب إلى تونس والسودان ومصر وتشاد وفلسطين وغيرها. ويتذكّر اللبنانيون سخاء صالح الدروقي في الصرف على قوى سياسية في لبنان في أواخر سبعينيات القرن العشرين. ومع ذلك لم يجد هذا الكولونيل من يُرسل إليه التحية في محنته ما قبل مقتله، مع أنه، بعد تسوية قضية لوكيربي، انهمك في استقبال رؤساء دول العالم الذين وقفوا في الطابور للسلام عليه، فتقاطر على ليبيا الألماني غيرهارد شرودر والبريطاني توني بلير والفرنسيان جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، وقبّل الإيطالي بيرلسكوني يده أمام مراسلي محطات التلفزة العالمية، وزارته الوزيرة الأميركية كوندوليزا رايس ومعها مساعدها ديفيد ولش، وقام القذافي بجولة على البرتغال وفرنسا وإيطاليا التي استقبل فيها كزعيم مميز.
نعم، تميزت ليبيا في عهد القذافي بالمغامرات السياسية غير المحسوبة، وبالتحولات المفاجئة في المواقف، وبالسذاجة الإعلامية والفكرية، وتميز القذافي نفسه بالاستعراضية المشهدية والسلوك التبذيري... إلخ. لكن هذه الحال لم تكن هي نفسها حال الشعب الليبي ونخبه الفكرية المبدعة.
هذه هي ليبيا
ارتبط اسم ليبيا في تاريخها السياسي المعاصر باسم عمر المختار الذي أعدمه الجنرال الإيطالي غرازياني في 16/9/1931، أي قبل 86 عاماً. وقد أنجز المخرج السوري العالمي، مصطفى العقاد، فيلماً أخاذاً عنه بتمويل من معمر القذافي نفسه، علاوة على تمويله فيلم "الرسالة"، وهما من أشهر الأفلام العربية التي كان لها شأن مهم عالمياً. وقد اشتُهر الشعب الليبي بمقاومته الاستعمار بشجاعة فائقة؛ فمنذ 1949 حين قرّرت الأمم المتحدة فرض الحماية البريطانية على إقليم برقة، والحماية الإيطالية على إقليم طرابلس، والحماية الفرنسية على إقليم فزّان، أي توزيع الثروات على لصوص الاستعمار القديم، لم يتوقف الليبيون عن المقاومة العنيفة والتظاهرات الصاخبة والاضطرابات الشاملة، الأمر الذي أرغم الأمم المتحدة على الاعتراف باستقلال ليبيا الموحدة. واتحدت الأقاليم الليبية في 24/12/1951 في إطار مملكة دستورية، يحكمها محمد إدريس بن المهدي السنوسي.
ليبيا هي أفريقيا في التاريخ القديم التي خرج منها شيشنق الأول، ليتسلم حكم مصر، ويؤسّس الأسرة الفرعونية الثانية والعشرين، والتي قامت فيها واحدةٌ من أهم مدائن العالم القديم، أي قورينيا التي ازدهرت فيها الثقافة الهلينية والرومانية أيما ازدهار، وقدّمت للبشرية أحد تلامذة المسيح، أي سمعان القوريني (وليس القيرواني بحسب الترجمة السائدة للإنجيل)، وهي التي أطلقت مناضلين وأعلاماً في الثقافة السياسية، منهم الصادق النيهوم وعلي فهمي خشيم وإبراهيم الكوني وأحمد إبراهيم الفقيه وخليفة التليسي (على اختلاف مقاماتهم الأدبية)، ومحمود المغربي (أحد مؤسسي حركة فتح) وفتحي الشقاقي (مؤسس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين) وبشير السعداوي وزهير السعداوي وكامل عياد ومحمد طارق الأفريقي (أحد مجاهدي فلسطين) وصالح مسعود أبو يصير الذي استشهد عندما أسقطت إسرائيل الطائرة التي كانت تقله في 1973، والممثل السوري الليبي الأصل ياسين بقوش والممثلة السورية نجاح حفيظ أيضاً.
استقبل العالم العربي حركة الفاتح من سبتمر/أيلول 1969 بفرح، إذ اعتبرها استمراراً للناصرية، ورداً على هزيمة 1967. واستقبلت ليبيا ملايين المصريين والتونسيين والفلسطينيين والسوريين واللبنانيين والمغاربة والسودانيين والأفارقة، ليعملوا في أرضها، ودفعت أموالاً هائلة للمقاومة الفلسطينية وللحركة الوطنية اللبنانية في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية وإبّان القتال ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان (معظم هذه الأموال لم يسقط في مكانه الصحيح). ومع ذلك لم يحفظ العرب من ليبيا إلا كلمتين: "قعمِز" و"الله غالب".
السياسة والإرهاب
التقى القذافي المنشق الفلسطيني صبري البنا (أبو نضال) أول مرة في 1984، ومنحه مكاناً آمناً في ليبيا. وتحملت ليبيا في حقبة ثمانينيات القرن المنصرم المسؤولية عن تفجير مقهى لابيل في برلين سنة 1986، وعن تفجير طائرة بان أميركان فوق مدينة لوكيربي الاسكتلندية سنة 1988، وعن تفجير طائرة "يوتا" الفرنسية فوق النيجر سنة 1989 التي كان يُعتقد أن محمد المقريف، الخصم اللدود للقذافي، موجوداً فيها. وكان الحكم الليبي مسؤولاً عن اختطاف المعارض ووزير الخارجية السابق، منصور الكيخيا، وهو من أصل سوري، في القاهرة واغتياله، وكذلك اغتيال المعارض وعضو مجلس قيادة الثورة السابق، عمر المحيشي، وغيرهما. والحقيقة أن هذه المسؤولية تتوزّع على آخرين في الوقت نفسه، فالمخابرات المصرية هي التي اعتقلت الكيخيا وسلمته إلى مدير المباحث الليبية، محمد المصراتي. وسلم الملك الحسن الثاني عمر المحيشي إلى المخابرات الليبية لقاء 200 مليون دولار، وقتله سعيد راشد الذي قُتل في بداية الانتفاضة الليبية.
أما قصة اختفاء الإمام موسى الصدر، ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر، فقد صارت مكشوفة (ومسكوتاً عنها في الوقت نفسه)، بعدما فضحها الكاتب الأميركي، كاي بيرد، في كتابه "الجاسوس النبيل" استناداً إلى معلومات استخبارية متينة، مصدرها رجل الاستخبارات الأميركية، روبرت إيمز، تقول إن العقيد القذافي دعا الإمام الصدر والسيد محمد علي بهشتي إلى لقاء مشترك في ليبيا، تحت رعايته لحل الخلافات بينهما في شأن قيام دولة دينية في إيران (ولاية الفقيه). وقد استنكف بهشتي عن القدوم إلى ليبيا، وطلب إلى القذافي احتجاز الإمام الصدر لديه، لأنه عميل للغرب، ويشكل خطراً على الثورة في إيران. وبناء على ذلك، احتُجز الصدر في أحد السجون الليبية عدة أشهر. وحين عاد بهشتي إلى إيران مع الإمام الخميني، حاول ياسر عرفات التوسط لإطلاق الصدر، إلا أن القذافي عاود الاتصال بمحمد بهشتي عارضاً عليه الأمر، فأصر الأخير على أن الصدر يشكل خطراً مباشراً، لا على الثورة في إيران فحسب، بل على حياة الخميني أيضاً. وهكذا أُعدم الصدر ودفن في مكان مجهول.
وفي هذا السياق، بات معروفاً أن معمر القذافي كان يخشى الإسلاميين خشية كبيرة، فأقام حلفاً مع الاستخبارات التونسية والمصرية، بموافقة صريحة من زين العابدين بن علي وحسني مبارك، وكان يصرف مبلغاً شهرياً لابن علي ودفعات مالية لمبارك ومدير المخابرات المصرية عمر سليمان أيضاً. فالقذافي كان يستخدم المال في تنفيذ سياسته ضد خصومه، وهذه مسألة شائعة لدى معظم الدول، ولم ينفرد بها القذافي. وقد اشتُهرت كثيراً الحادثة المعروفة، حين طلب القذافي من حركة فتح اغتيال المعارض (وعضو مجلس الثورة السابق) عبد المنعم الهوني في القاهرة فرفضت. وكان هذا الموقف سبباً في غيظه منها. وفي 1982، خلال حصار بيروت، دعا القذافي المقاتلين الفلسطينيين إلى الانتحار وعدم الخروج من المدينة، فرد عليه ياسر عرفات بالقول: تفضل وانتحر معنا.
هذا هو القذافي
يروي عنه رفاقه الأوائل إنه نشأ فقيراً مستضعفاً، وعاش بداياته الأولى بسيطاً وذا طموح وتطلع. وقد قرأ، في مرحلة شبابه الأول، ميشال عفلق وقسطنطين زريق والكتب الناصرية، وصار جمال عبد الناصر ملهمه التاريخي. ولا شك في أن القذافي كان يتمتع، خلال دراسته العسكرية، ببعض مزايا القيادة، فتمكّن من أن يستقطب ضباطاً شباناً من ذوي النزعة الوطنية المعادية للوجود الإنكليزي والأميركي في ليبيا، ومن ذوي الانتماء القومي العربي معاً. لكنه لم يلبث أن اختلف مع كثيرين من رفاقه، أمثال عامر الدغيّث، المسؤول الأول لحزب البعث في ليبيا، والذي قُتل في أحوال شبه غامضة لاحقاً.
بدّد القذافي ثروة بلاده على أمورٍ لا تستحق النضال من أجلها، وسلم مقاليد السلطة لأولاده والمقربين منه، فعاثوا فساداً مفرطاً، وألغى الحياة السياسية في ليبيا تماماً تحت شعار "من تحزّب فقد خان". وللعلم، كان في ليبيا، قبل حركة الفاتح من أيلول/ سبتمبر 1969 أحزاب كثيرة كالبعث والقوميين العرب والشيوعيين ومجموعات تروتسكية، علاوة على الليبراليين والإخوان المسلمين والناصريين. لكن القذافي صادر ذلك كله لمصلحة أفكار "الكتاب الأخضر" الذي تحول نكتة جارية، خصوصاً كلامه عن الفرق بين المرأة والرجل، فهو يقول: الفرق أن المرأة تحيض والرجل لا يحيض! ولم يسلم القذافي من سيل النكات التي شملته، مثلما شملت غيره من الرؤساء العرب، منها أنه حين سئل عن تزايد أسباب الطلاق في ليبيا، أجاب: السبب الأول هو الزواج. وقوله إنه لولا الكهرباء التي أنعمت "ثورة الفاتح" بها على الشعب الليبي لكان الليبيون يشاهدون التلفاز اليوم في العتمة.
الزمن الدائري
هل تعود ليبيا موحدة كما كانت في عهد القذافي؟ ربما. وهل تتحول إلى دولة فدرالية مؤلفة من ولايات فزّان وبرقة وطرابلس، أي إلى اتحاد قبائل؟ ربما أيضاً، غير أن هذه الفدرالية ستتناهشها من الخارج، وإلى أمد بعيد الشركات الكبرى ودول الاستعمار القديم، وستتناوشها من الداخل سيوف العشائر وبنادقها المستقوية، في الوقت نفسه، بالخارج على الطريقة العراقية واليمنية والسورية. وكانت جموع من العرب استبشرت، منذ ربيع 2011، ببعض التحولات الجارية في دول عربية مثل ليبيا وتونس ومصر ثم سورية. لكن الإنسان العربي يخشى، أكثر ما يخشى، فوضى السلاح، وسيطرة المجموعات المسلحة على الحياة اليومية في البلدان التي اندلعت فيها الصراعات الدموية. وهذه الفوضى ربما تجرّ الأوضاع نحو قيام شخص قوي، أو مجموعة من القوى السياسية بقيادة شخص قوي، بالسيطرة على البلاد، وإلغاء المجموعات السياسية المسلحة الأخرى، على غرار ما فعلته حركة طالبان في أفغانستان، ثم فرض نظام استبدادي جديد، لأن الاستبداد في البلاد التي تعاني الفوضى المسلحة أفضل من الفوضى الدائمة. وبحسب مفكرين سياسيين، إن نهاية فظيعة للفوضى خير من فظاعة بلا نهاية، خصوصاً أن المجتمع المجرّد من دولته كالعراق وليبيا لا يُنتج أي ديمقراطية، لأن من شروط تأسيس الديمقراطية وجود دولة ومجتمع مدني فاعل ووجود مواطنين ديمقراطيين، وهو ما تفتقده ليبيا.