13 نوفمبر 2024
لو دام لغيرك لما وصل إليك
ثمّة حوارٌ لافتٌ يذكره الفرس في تواريخهم، جرى بين كسرى ملك الفرس ومعشوقته الجميلة شيرين التي اختلف الرواة في أصلها وفصلها. في لحظة تجلّ، قال كسرى لمعشوقته، وهو يطوف بنظراته في الأفق البعيد: ما أحسن هذا المُلك لو دام لنا.. تجيب شيرين: لو دام هذا الملك لغيرنا لما انتقل إلينا.
لم يسمع بعض حكام عرب بهذه الحكاية، ولم تدركهم الحكمة منها، وسمع بعضهم بها وتجاهلها، لأن الجلوس على القمة يُنسيهم ما كانوا سمعوا به، أو قرأوا عنه، وما إن يتسلق واحدُهم قمة السلطة، سواء عبر السلاح أو عبر الصناديق المثقوبة، حتى يبدأ التفكير في ما يمكن له أن يفعله، لكي يظل ملتصقا بالكرسي. هنا يبدأ العمل بشكل محموم، لفعل الشيء الوحيد الذي يفكّر فيه، وسوف يجد عشراتٍ ممن يزيّنون له الرغبة في البقاء على الكرسي، كما سيجد أيضا عشرات من الصحافيين والإعلاميين ممن يتطوّعون لإقناع الجمهور بأن بقاء الحاكم إياه على الكرسي مدى حياته سيوفر أمامه الزمن الكافي لخدمتهم، وتحقيق مطالبهم، وأنه زاهدٌ في المنصب، وغير راغبٍ فيه، لكنه نتيجة إلحاحهم قد يفكّر في الاستجابة لهم. ومن هنا دخلت الفضاء السياسي في العالم العربي أفكار تعديل الدساتير من أجل إطلاق عدد المرات التي يستطيع فيها الحاكم الترشح، أو تمديد المدد الزمنية للبقاء في قمة السلطة، بادّعاء توفير
الزمن له لخدمة مواطنيه، والإنابة عنهم في تقرير مصائرهم ومصائر بلدانهم.
فعلها عبدالعزيز بوتفليقة في الجزائر، ما إن أوشكت مدّته الرئاسية الثانية على الانتهاء، حتى سارع إلى إنجاز ما فكّر فيه، جمع الأعوان والمحاسيب ورجال الحزب الذين يحفظون له مجده الجهادي، وأقدم على تعديل الدستور، كي يضمن رئاساتٍ ليست لها نهاية إلا عند عتبة القبر، وكان أن سار إلى رئاستين، ثالثة ورابعة، وهو اليوم في عامه الخامس والثمانين يسير على كرسيّ إعاقة متحرّك، وصولا إلى رئاسةٍ خامسة، وكم كنا نتمنّى لو أنه مزّق "المضابط" التي قال الحزب إن عدد الذين وقّعوا عليها تجاوز السبعمائة ألف، والتي تطلب بقاءه في الحكم، يكون قد سجّل صفحة بيضاء ناصعة، يضيفها إلى سجله الجهادي العتيق، لكنه لم يفعل، وإنما تقدّم للترشح، على الرغم من اعترافه: "لم أعد بنفس القوة البدنية التي كنت عليها.. وعلي اجتياز الصعاب المرتبطة بالمرض". وأيضا زعمه أنه مضطرٌ للقبول بالترشّح، لأن بلاده "لا تزال لديها ورشات مهمة يتعين التكفل بها واستكمالها، وتحدّيات كبيرة ينبغي رفعها"، وكأن لا أحد سواه قادرٌ على التكفل بتلك الورشات ومواجهة تلك التحدّيات.
فعلها أيضا عبدالفتاح السيسي في مصر، إذ وصلت الرئاسة إليه، وهي تجرّ أذيالها، بعد أن قاد انقلابا عسكريا تحت غطاء "الاستجابة لمطالب الشعب وتفاديا لحرب أهلية"، مؤكّدا أنه لن يترشح للرئاسة. ولكن، ومن قماشة سيناريو بوتفليقة، أعلن أنصاره أنهم جمعوا ستة وعشرين مليون توقيع، يطالبونه بخوض الانتخابات، وكان أن وجد أنّ "لا مفر من الاستجابة لمطالب الشعب". وهكذا تسلق القمة، وعينه على الكرسي. ومن رئاسةٍ أولى إلى ثانية، وقبل أن تنتهي كان كل شيءٍ جاهزا لضمان الحصول على الجائزة الكبرى، كما فعل بوتفليقة، جنّد بعض مريديه، وأغدق على بعض الإعلاميين والصحافيين الذين تكفلوا بدفع البرلمان إلى إقرار تعديل دستوري، يجعل فترة الرئاسة ست سنوات، ولفترتين متتاليتين، مع احتفاظه بالحق في الترشّح
بعد انتهاء ولايته الحالية. وعمليا، يتيح له التعديل البقاء على كرسي الرئاسة لولايتين أخريين، وإذا طالت مدة الحكم، كما تقول العرب، يصبح "ملكا عضوضا" شديد الوطأة على مواطنيه.
ومن القماشة نفسها، فعلها أيضا عمر البشير في السودان الذي تسلق إلى القمة، هو الآخر، عبر انقلاب عسكري. وفي حينه، أعطى عهدا بأن يسلم السلطة بعد فترة انتقاليةٍ، لكنه عضّ بنواجذه على الكرسي، حتى أكمل ثلاثين عاما. بعدها، دفع مريديه في البرلمان إلى إقرار تعديل دستوري يضمن له ولايةً أخرى، وربما أكثر، وليته سمع أصوات مواطنيه في تظاهراتهم الصاخبة التي تطالبه بالرحيل.
هكذا تترسّخ حالة التشبث بالسلطة، لتصبح جزءا من الديكور الماثل في العالم العربي، حيث يظل الهدف الرئيسي للحاكم البقاء على القمة مدى الحياة، غير مدركٍ الحكمة التي قالت بها شيرين معشوقة كسرى.
وحدهم، الكويتيون أدركوا هذه الحكمة، ونقشوها على بوابة قصر السيف (مقر الحكومة)، قبل أكثر من مائة عام في ولاية الشيخ سالم المبارك الصباح، ولا تزال شاخصة.
فعلها عبدالعزيز بوتفليقة في الجزائر، ما إن أوشكت مدّته الرئاسية الثانية على الانتهاء، حتى سارع إلى إنجاز ما فكّر فيه، جمع الأعوان والمحاسيب ورجال الحزب الذين يحفظون له مجده الجهادي، وأقدم على تعديل الدستور، كي يضمن رئاساتٍ ليست لها نهاية إلا عند عتبة القبر، وكان أن سار إلى رئاستين، ثالثة ورابعة، وهو اليوم في عامه الخامس والثمانين يسير على كرسيّ إعاقة متحرّك، وصولا إلى رئاسةٍ خامسة، وكم كنا نتمنّى لو أنه مزّق "المضابط" التي قال الحزب إن عدد الذين وقّعوا عليها تجاوز السبعمائة ألف، والتي تطلب بقاءه في الحكم، يكون قد سجّل صفحة بيضاء ناصعة، يضيفها إلى سجله الجهادي العتيق، لكنه لم يفعل، وإنما تقدّم للترشح، على الرغم من اعترافه: "لم أعد بنفس القوة البدنية التي كنت عليها.. وعلي اجتياز الصعاب المرتبطة بالمرض". وأيضا زعمه أنه مضطرٌ للقبول بالترشّح، لأن بلاده "لا تزال لديها ورشات مهمة يتعين التكفل بها واستكمالها، وتحدّيات كبيرة ينبغي رفعها"، وكأن لا أحد سواه قادرٌ على التكفل بتلك الورشات ومواجهة تلك التحدّيات.
فعلها أيضا عبدالفتاح السيسي في مصر، إذ وصلت الرئاسة إليه، وهي تجرّ أذيالها، بعد أن قاد انقلابا عسكريا تحت غطاء "الاستجابة لمطالب الشعب وتفاديا لحرب أهلية"، مؤكّدا أنه لن يترشح للرئاسة. ولكن، ومن قماشة سيناريو بوتفليقة، أعلن أنصاره أنهم جمعوا ستة وعشرين مليون توقيع، يطالبونه بخوض الانتخابات، وكان أن وجد أنّ "لا مفر من الاستجابة لمطالب الشعب". وهكذا تسلق القمة، وعينه على الكرسي. ومن رئاسةٍ أولى إلى ثانية، وقبل أن تنتهي كان كل شيءٍ جاهزا لضمان الحصول على الجائزة الكبرى، كما فعل بوتفليقة، جنّد بعض مريديه، وأغدق على بعض الإعلاميين والصحافيين الذين تكفلوا بدفع البرلمان إلى إقرار تعديل دستوري، يجعل فترة الرئاسة ست سنوات، ولفترتين متتاليتين، مع احتفاظه بالحق في الترشّح
ومن القماشة نفسها، فعلها أيضا عمر البشير في السودان الذي تسلق إلى القمة، هو الآخر، عبر انقلاب عسكري. وفي حينه، أعطى عهدا بأن يسلم السلطة بعد فترة انتقاليةٍ، لكنه عضّ بنواجذه على الكرسي، حتى أكمل ثلاثين عاما. بعدها، دفع مريديه في البرلمان إلى إقرار تعديل دستوري يضمن له ولايةً أخرى، وربما أكثر، وليته سمع أصوات مواطنيه في تظاهراتهم الصاخبة التي تطالبه بالرحيل.
هكذا تترسّخ حالة التشبث بالسلطة، لتصبح جزءا من الديكور الماثل في العالم العربي، حيث يظل الهدف الرئيسي للحاكم البقاء على القمة مدى الحياة، غير مدركٍ الحكمة التي قالت بها شيرين معشوقة كسرى.
وحدهم، الكويتيون أدركوا هذه الحكمة، ونقشوها على بوابة قصر السيف (مقر الحكومة)، قبل أكثر من مائة عام في ولاية الشيخ سالم المبارك الصباح، ولا تزال شاخصة.