09 نوفمبر 2024
لويزة حنون.. ضحية ماذا؟
في غمرة الحراك الجزائري الذي لم يتوقف، متخذا من أيام الجُمع موعداً أسبوعياً لتجدّده، ومع الانشغال بالموقف من الانتخابات الرئاسية التي تم تحديد موعدها في 12 ديسمبر/ كانون الأول المقبل، فقد ضعف الاهتمام بمتابعة أخبار "كبار" المعتقلين من رجالات عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، إلى أن صدر، قبل أيام، الحكم القضائي العسكري بالسجن النافذ 15 عاما على سعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس السابق، وعلى آخر مديريْن للمخابرات، محمد مدين وبشير طرطاق، والحكم بالسجن النافذ عشرين عاماً على وزير الدفاع السابق اللواء خالد نزار ونجله. وقد شملت الأحكام رئيسة حزب العمال، لويزة حنون (65 عاما)، الموقوفة منذ مايو/ أيار الماضي، وهي السيدة الوحيدة التي شملتها الأحكام. الحكم صادم (15 عاما سجنا)، إذ يتعلق بزعيمة حزب، وليس بمسؤولة سابقة، أو سيدة من عالم الأعمال، فقد نجحت حنون، على مدار ثلاثة عقود، في البروز ضمن معمعان المعارضة، وكانت السيدة الوحيدة التي تخوض هذا المعترك وعلى هذا المستوى، وقد تعرّضت للاعتقال ثلاث مرات، كما ترشّحت للانتخابات الرئاسية ثلاث مرات، إضافة إلى انتخابها لعضوية مجلس الشعب الوطني ثلاث مرات أيضاً..
وقد أظهرت حنون قدرة متميزة على اتخاذ مواقف مستقلة عن بقية الأحزاب، بما فيها أحزاب
العائلة اليسارية، إذ دعت إلى إجراءات حكومية وفاقية، بعد فوز جبهة الإنقاذ في انتخابات العام 1991. هذا على الرغم من أنها من جُملة اللائكيين الداعين إلى فصل الدين عن الدولة. وأبدت موقفا يجمع بين إدانة حكم العسكر والإرهاب. وحافظت على خطها السياسي التروتسكي أربعة عقود. ولا شك أنها من المفارقات الكبرى أن تتعرّض حنون للجكم الأقسى عليها في ظل التغيير الذي وقع في الجزائر، ومن طرف الحكم "الجديد". وتتسع المفارقة مع ملاحظة أن حنون قد تحفظت على الحراك الجزائري، وذلك من ضمن موقفها المناوئ لموجة الربيع العربي، إذ سبق أن حذّرت مما أسمته "الوقوع في الفخ"، واعتبرت موجة الربيع "امتداداً للمكائد الإمبريالية الرأسمالية". هذا على الرغم من أنها راديكالية، تؤمن بالثورة الدائمة، وليست ستالينية ممن يؤمنون بمرجعية موسكو وبالقيادة الثورية (الشيوعية) للانتفاضات (لا ثورة بدون نظرية ثورية).
لم يجر اعتقال السيدة حنون على خلفية تحفّظها على الحراك الجزائري، بل لأن القضاء (العسكري) اتهمها بإجراء اتصالات ومباحثات مع كبار أركان عهد بوتفليقة، ومنهم الشقيق سعيد، المستشار في القصر والواسع النفوذ، ومديرَي المخابرات، في الفترة التي اشتدت فيها المطالبة الشعبية والسياسية بتنحّي بوتفليقة، وهو موقف مالت إليه قيادة أركان الجيش منذ إبريل/ نيسان الماضي، وحذّرت هذه القيادة حينذاك من "اتصالاتٍ مُريبةٍ تدور تحت جنح الظلام". والمقصود أن أركاناً من العهد السابق كانوا يبحثون عن وسيلةٍ تجمع بين الاستجابة الشكلية، أو الجزئية، لمطالب الحراك، والحفاظ على رموز النظام ومرتكزاته. وقد وقع اتهام لويزة حنون بأنها شاركت في تلك المباحثات. وتم اتهامها، ثم اعتقالها، بناء على ذلك. وقد أثار توقيفها حينذاك، قبل أزيد من أربعة أشهر، شعورا بمفاجاة كبيرة، وقد بادرت ألف شخصية فرنسية بارزة في الدعوة إلى الإفراج الفوري عنها، أياما بعد اعتقالها. لم يتم إخلاء سبيلها، بل نالها حكم قاسٍ من قضاء عسكري، ولم يوضع الجمهور في صورة مجريات التقاضي، غير أن انطباعا عاما ظل سائدا بأن الأركان الأمنيين لعهد بوتفليقة عكفوا على طريقتهم على محاولة إنقاذ المركب من الغرق، وحاولوا استصدار قرار رئاسي بتنحية رئيس أركان الجيش، وإنه لم يكن مستبعدا، من ناحية نظرية، أن تُجري لويزة حنون اتصالاتٍ مع هؤلاء، في ضوء موقفها المتوجس من موجة الحراك. ونظرا لحاجة الكبار الأمنيين إلى إشراك طرف شعبي ثوري في جهودهم تلك التي منيت بالفشل، وذلك في ظل مسارعة أركان الجيش بدعوة بوتفليقة إلى التنحي مع نهاية إبريل/ نيسان، وتصدّر قيادة الجيش لإدارة دفّة الحكم.
في هذه الأجواء، ومع تنامي الضغط الشعبي، شرعت القيادة العسكرية في توقيف كبار
المسؤولين، وهو ما أثار ارتياحا شعبيا واسعا، فيما لم يُثر اعتقال لويزة حنون قبولا أو تنديدا يُذكر، بل بدا بداية نهاية لمسيرة هذه السيدة "الحديدية" التي بدأت بمناصرة حقوق المرأة في بلدها، كحال سائر النساء الناشطات هنا وهناك، مع اندفاعها للعمل، أواخر سبعينات القرن الماضي، إلى العمل خارج القطاع النسائي في حزب جبهة التحرير، ما أكسبها، منذ البداية، صفة الشخصية السياسية والعامة المستقلة عن النظام القائم والحزب الحاكم، وحتى عن ألوان المعارضة المختلفة، بما فيها المعارضة اليسارية. ولكنها وقعت، في آخر المطاف، وأمام امتحان جدّي يتمثل في اندلاع موجة الربيع العربي، في أخطاء اليسار العربي التقليدي، المشرقي والمغاربي، في استهوال أن يتحرّك الجمهور، وبالذات شريحة الشبان، من تلقاء ذاته، ومن خارج الأحزاب، وبغير قيادة محدّدة، والاكتفاء بمناهضة الاستبداد والفساد هدفاً رئيساً وآنياً. ثم انزلاق هذا اليسار للتشكيك في سلامة طويّة هذا الجمهور، والزعم البائس، الضمني أو العلني، بوقوع هذا الجمهور غافلا متغافلا في مؤامرةٍ مزعومةٍ كان وقودا لها. وهي طريقة تفكير لهذا اليسار تتساوق مع (بل تستنسخ) أطروحات الأنظمة التي ترى في كل تحرك شعبي واسع مؤامرةً تستهدف الوطن والمستقبل. وهذا مع ما دأب عليه اليسار (الشيوعي خصوصا) من التعامل مع الجماهير كمفهوم تجريدي وكتلة صماء يجري استخدامها عند الحاجة، واتخاذها شعارا دائما، والتعامل معها من علٍ، ومن خارجها والنيابة عنها، فإذا ما تحرّكت هذه الجماهير، بصورة مستقلة عن الأجسام الحزبية والسلطوية والهياكل الاجتماعية، وبغير مواعيد ثورية و"كلمة سر" معمّمة على المناضلين والمناضلات والرفاق والرفيقات، فإن ذلك يرقى إلى مستوى الطعن بالناموس الراديكالي، وبعلم علوم الثورات. ولم يتوقف الأمر عند الاستخفاف بالجمهور، وإنكار رُشده وملكاته العقلية، بل تعدّاه إلى الاستهتار بحق البشر في الحياة (ناهيك بالحق في الحرية والكرامة). وكما هو الحال في الموقف الشامت بالسوريين، الذين "يستحقون" توقيع حكم الإبادة عليهم، نتيجة اندفاعهم في انتفاضتهم بغير مباركة وترسيم من السدنة الثوريين: اليساريين والعلمانيين ومن لفّ لفهم..
لويزا حنون كانت ضمن هذا اليسار، وقد وقعت ضحية اختلاط الطريق الثوري أمام ناظريها، إذ حاولت، كما يبدو، على الرغم من معارضتها له، إنقاذ النظام، بأمل التمتع بهامش حركة داخله، فإذا بجناح آخر يتربّص بها، فيما الجمهور الذي استهانت بحراكه، بريءٌ مما جرى لها.
لم يجر اعتقال السيدة حنون على خلفية تحفّظها على الحراك الجزائري، بل لأن القضاء (العسكري) اتهمها بإجراء اتصالات ومباحثات مع كبار أركان عهد بوتفليقة، ومنهم الشقيق سعيد، المستشار في القصر والواسع النفوذ، ومديرَي المخابرات، في الفترة التي اشتدت فيها المطالبة الشعبية والسياسية بتنحّي بوتفليقة، وهو موقف مالت إليه قيادة أركان الجيش منذ إبريل/ نيسان الماضي، وحذّرت هذه القيادة حينذاك من "اتصالاتٍ مُريبةٍ تدور تحت جنح الظلام". والمقصود أن أركاناً من العهد السابق كانوا يبحثون عن وسيلةٍ تجمع بين الاستجابة الشكلية، أو الجزئية، لمطالب الحراك، والحفاظ على رموز النظام ومرتكزاته. وقد وقع اتهام لويزة حنون بأنها شاركت في تلك المباحثات. وتم اتهامها، ثم اعتقالها، بناء على ذلك. وقد أثار توقيفها حينذاك، قبل أزيد من أربعة أشهر، شعورا بمفاجاة كبيرة، وقد بادرت ألف شخصية فرنسية بارزة في الدعوة إلى الإفراج الفوري عنها، أياما بعد اعتقالها. لم يتم إخلاء سبيلها، بل نالها حكم قاسٍ من قضاء عسكري، ولم يوضع الجمهور في صورة مجريات التقاضي، غير أن انطباعا عاما ظل سائدا بأن الأركان الأمنيين لعهد بوتفليقة عكفوا على طريقتهم على محاولة إنقاذ المركب من الغرق، وحاولوا استصدار قرار رئاسي بتنحية رئيس أركان الجيش، وإنه لم يكن مستبعدا، من ناحية نظرية، أن تُجري لويزة حنون اتصالاتٍ مع هؤلاء، في ضوء موقفها المتوجس من موجة الحراك. ونظرا لحاجة الكبار الأمنيين إلى إشراك طرف شعبي ثوري في جهودهم تلك التي منيت بالفشل، وذلك في ظل مسارعة أركان الجيش بدعوة بوتفليقة إلى التنحي مع نهاية إبريل/ نيسان، وتصدّر قيادة الجيش لإدارة دفّة الحكم.
في هذه الأجواء، ومع تنامي الضغط الشعبي، شرعت القيادة العسكرية في توقيف كبار
لويزا حنون كانت ضمن هذا اليسار، وقد وقعت ضحية اختلاط الطريق الثوري أمام ناظريها، إذ حاولت، كما يبدو، على الرغم من معارضتها له، إنقاذ النظام، بأمل التمتع بهامش حركة داخله، فإذا بجناح آخر يتربّص بها، فيما الجمهور الذي استهانت بحراكه، بريءٌ مما جرى لها.