حظي فكتور باريو، مصارع الثيران، الذي ودعته حلبات مدريد الأسبوع الماضي بعد أن لقي حتفه في حلبة المدينة، بوداع يليق ببطل، وحداد ليومين. الشاب الذي لا يتجاوز عمره 29 سنة، لو حصل موته في زمن لوركا، وليس في زمن الميديا السريعة، لكان شأنه شأن أخناثيو سانشيز ميخيس في رائعة شاعر غرناطة.
فليس وحده الشاعر الإسباني فديريكو غارسيا لوركا من صوّر مصارع الثيران، أو أغرم بأبطال هذه المصارعة ورثاهم في موتهم "المباشر" المجلّل بالدم، موتُ الفرجة وموت الدهشة، وموت الألم الأقرب إلى التوقع من حبل الوريد، بل يشاركه في ذلك ويقاسمه "متعة" قضم التفاحة المرّة لتلك الرياضة الخارجة من عصور يريد فيها الإنسان، بما أوتي من حيل قوة منازلة "ثور الزمان" والانتصار عليه، عدد من الكتاب الكبار من أمثال الروائي الأميركي همنغواي والشاعر إزرا باوند والشاعر رفائيل ألبرتي والرسام الإسباني بيكاسو وعدد آخر لا سبيل لحصرهم هنا.
في أعمال بيكاسو اتخذ موضوع مصارعة الثيران بعداً أيروتيكيا، وعند همنغواي رمز إلى البطولة، وفي شعر لوركا، كان مرثية طويلة من أجل صديقه المصارع أخناثيو سانشيز ميخيس الذي سلّم أمره على رمال الحلبة في الخامسة مساء من ذلك اليوم المشؤوم.
كان ذلك الموت مروعاً، ليس لأنه الموت الأول الذي يحدث على حلبة غرناطة، بل لارتباطه بمصارع شهير، حوّله شاعر كبير له حضور في وجدان الإسبان إلى أسطورة حديثة، في عصر يقتل الأساطير، ويبيع الأبطال في المزادات العلنية.
يصدّر لوركا مرثيته بهذه المشهدية:
في الخامسة بعد الظهر
كانت تمام الخامسة بعد الظهر
صبي جاء بالملاءة البيضاء
في الخامسة بعد الظهر
سلة كلس هيئت بعجَل
في الخامسة بعد الظهر
وماتبقى
كان الموت والموت وحده.
مصارعة الثيران لم تكن أبداً في الثقافة الإسبانية مجرد رياضة "بدائية" يجتمع في حلباتها كل هذا الجمهور الهائج المائج من البشر، بحثا عن "متعة" لحظة موت متحقق، بل كانت قيمة ثقافية كبيرة، ووجهة نظر، وتمثلا نفسياً في الزمن الحاسم للنزال الأبدي بين الحياة والموت.
من المريع حقاً، أن الموت هو من ينتصر في الأخير، لكنه يكون أحمر قانياً حين ينزف دماً من جسد المصارع المسجى في "فراشته" الحمراء لا من كتلة الثور الصريع.
في التقاليد الإسبانية حين ينتصر المصارع على الثور ويتمكن من إثخان جسد بالحراب، ويهوي إلى أرض الحلبة، تدخل أربعة بغال إلى هذا المجال المحرّم على الجميع، وتجرّ الثور الصريع إلى الخارج، حيث يتحول لحمه إلى وليمة.
هنا يرقى الموت إلى حيز للاحتفال بالإفلات من ضربة قرن طائشة تخترق الأحشاء.
لكن عندما يهزم الثور المصارع في الحلبة وينهي حياته، لا يدفع الثور ثمن فعلته فقط، بل أيضا تساق أمه إلى المسلخ، وكل سلالته، كنوع من "الاستئصال العرقي"، وتحل الخسارة برب المزرعة، لأنه منح لهذه الرياضة ثوراً دموياً وقاتلا، وقد يؤدي به الأمر إلى الإفلاس.
يرسم لوركا لوحة مأساوية، يتوازى فيها النقيضان، المنتصر والمنهزم، والموت والحياة، والثور والمصارع، يقول ببراعته التصويرية اللافتة:
في الخامسة بعد الظهر
في كل ركن جماعات صامتة
في الخامسة بعد الظهر
والثور وحده هو المبتهج!
وفي مقطع آخر من المرثاة، يقتنص تلك الجملة البؤرة، التي تعكس درامية المشهد، والظلال الفلسفية التي يتخذها، عندما يتحوّل الثور من مجرد حيوان إلى كائن أزلي مفطوم على فعل القتل:
لا أريد أن أراه
بقرة الزمن القديم تمرر لسانها الحزين
على خطم يملؤه الدم المراق على الرمل
وثيران جيسنادو
نصفها موت
ونصفها صخر
تخور مثل قرنين متعبين من وطء الأرض
يذهب مصارع الثيران إلى الموت متأنقاً، منديله الأحمر ورايته وحرابه، كل عدة الحرب معه. يذهب بدون رجة خوف ولا رجفة قدم. فصد الهجوم والتلاعب بمشاعر هذه القوة المجنونة التي تثير نقع غبار الحلبة وهي تهجم عليه مستثارة، تجعله يرقص على حبل الموت بالخفة المطلقة والجمال الكامن في رقصة الفلامينكو، وبالسخرية اللازمة من موت محمول على قرن ثور، قريب جداً من فجوة الضلع السابع.
لذلك يهتز الجمهور، جمهور الحلبة، يلتذّ، تحتلبه المشاعر المتضاربة، وحين يخرج المصارع من نزاله منتصراً على الثور المضرج في دمائه والمثخن بالحراب، يكون قد رفع راية الانتصار للحياة.
يخضع جمهور المصارعة إلى نوع من التطهير، حاول الكتاب والمبدعون تأمل هذه العلاقة بين الفرجة والأثر النفسي لها. ولعل أجواء النصف الأول من القرن الماضي كانت تجد في هذه الرياضة نوعاً من البطولة، قوامها: التحقق في الميدان لا غيره.
أما لوركا فهو الوحيد الذي ظل أسيان على صديقه، الحزين من أجله، والمادح لشجاعته وبطولته، ذلك المصارع الشهم الذي:
لم يغمض عينيه
حين رأى القرنين يقتربان
لكن الأمهات الجزعات رفعن رؤوسهن
وعبر مزارع الماشية
تعالى نسيم من الصوات سرية
يصيح بها رعاة الضباب الشاحب
على ثيران السماء.
اقــرأ أيضاً
فليس وحده الشاعر الإسباني فديريكو غارسيا لوركا من صوّر مصارع الثيران، أو أغرم بأبطال هذه المصارعة ورثاهم في موتهم "المباشر" المجلّل بالدم، موتُ الفرجة وموت الدهشة، وموت الألم الأقرب إلى التوقع من حبل الوريد، بل يشاركه في ذلك ويقاسمه "متعة" قضم التفاحة المرّة لتلك الرياضة الخارجة من عصور يريد فيها الإنسان، بما أوتي من حيل قوة منازلة "ثور الزمان" والانتصار عليه، عدد من الكتاب الكبار من أمثال الروائي الأميركي همنغواي والشاعر إزرا باوند والشاعر رفائيل ألبرتي والرسام الإسباني بيكاسو وعدد آخر لا سبيل لحصرهم هنا.
في أعمال بيكاسو اتخذ موضوع مصارعة الثيران بعداً أيروتيكيا، وعند همنغواي رمز إلى البطولة، وفي شعر لوركا، كان مرثية طويلة من أجل صديقه المصارع أخناثيو سانشيز ميخيس الذي سلّم أمره على رمال الحلبة في الخامسة مساء من ذلك اليوم المشؤوم.
كان ذلك الموت مروعاً، ليس لأنه الموت الأول الذي يحدث على حلبة غرناطة، بل لارتباطه بمصارع شهير، حوّله شاعر كبير له حضور في وجدان الإسبان إلى أسطورة حديثة، في عصر يقتل الأساطير، ويبيع الأبطال في المزادات العلنية.
يصدّر لوركا مرثيته بهذه المشهدية:
في الخامسة بعد الظهر
كانت تمام الخامسة بعد الظهر
صبي جاء بالملاءة البيضاء
في الخامسة بعد الظهر
سلة كلس هيئت بعجَل
في الخامسة بعد الظهر
وماتبقى
كان الموت والموت وحده.
مصارعة الثيران لم تكن أبداً في الثقافة الإسبانية مجرد رياضة "بدائية" يجتمع في حلباتها كل هذا الجمهور الهائج المائج من البشر، بحثا عن "متعة" لحظة موت متحقق، بل كانت قيمة ثقافية كبيرة، ووجهة نظر، وتمثلا نفسياً في الزمن الحاسم للنزال الأبدي بين الحياة والموت.
من المريع حقاً، أن الموت هو من ينتصر في الأخير، لكنه يكون أحمر قانياً حين ينزف دماً من جسد المصارع المسجى في "فراشته" الحمراء لا من كتلة الثور الصريع.
في التقاليد الإسبانية حين ينتصر المصارع على الثور ويتمكن من إثخان جسد بالحراب، ويهوي إلى أرض الحلبة، تدخل أربعة بغال إلى هذا المجال المحرّم على الجميع، وتجرّ الثور الصريع إلى الخارج، حيث يتحول لحمه إلى وليمة.
هنا يرقى الموت إلى حيز للاحتفال بالإفلات من ضربة قرن طائشة تخترق الأحشاء.
لكن عندما يهزم الثور المصارع في الحلبة وينهي حياته، لا يدفع الثور ثمن فعلته فقط، بل أيضا تساق أمه إلى المسلخ، وكل سلالته، كنوع من "الاستئصال العرقي"، وتحل الخسارة برب المزرعة، لأنه منح لهذه الرياضة ثوراً دموياً وقاتلا، وقد يؤدي به الأمر إلى الإفلاس.
يرسم لوركا لوحة مأساوية، يتوازى فيها النقيضان، المنتصر والمنهزم، والموت والحياة، والثور والمصارع، يقول ببراعته التصويرية اللافتة:
في الخامسة بعد الظهر
في كل ركن جماعات صامتة
في الخامسة بعد الظهر
والثور وحده هو المبتهج!
وفي مقطع آخر من المرثاة، يقتنص تلك الجملة البؤرة، التي تعكس درامية المشهد، والظلال الفلسفية التي يتخذها، عندما يتحوّل الثور من مجرد حيوان إلى كائن أزلي مفطوم على فعل القتل:
لا أريد أن أراه
بقرة الزمن القديم تمرر لسانها الحزين
على خطم يملؤه الدم المراق على الرمل
وثيران جيسنادو
نصفها موت
ونصفها صخر
تخور مثل قرنين متعبين من وطء الأرض
يذهب مصارع الثيران إلى الموت متأنقاً، منديله الأحمر ورايته وحرابه، كل عدة الحرب معه. يذهب بدون رجة خوف ولا رجفة قدم. فصد الهجوم والتلاعب بمشاعر هذه القوة المجنونة التي تثير نقع غبار الحلبة وهي تهجم عليه مستثارة، تجعله يرقص على حبل الموت بالخفة المطلقة والجمال الكامن في رقصة الفلامينكو، وبالسخرية اللازمة من موت محمول على قرن ثور، قريب جداً من فجوة الضلع السابع.
لذلك يهتز الجمهور، جمهور الحلبة، يلتذّ، تحتلبه المشاعر المتضاربة، وحين يخرج المصارع من نزاله منتصراً على الثور المضرج في دمائه والمثخن بالحراب، يكون قد رفع راية الانتصار للحياة.
يخضع جمهور المصارعة إلى نوع من التطهير، حاول الكتاب والمبدعون تأمل هذه العلاقة بين الفرجة والأثر النفسي لها. ولعل أجواء النصف الأول من القرن الماضي كانت تجد في هذه الرياضة نوعاً من البطولة، قوامها: التحقق في الميدان لا غيره.
أما لوركا فهو الوحيد الذي ظل أسيان على صديقه، الحزين من أجله، والمادح لشجاعته وبطولته، ذلك المصارع الشهم الذي:
لم يغمض عينيه
حين رأى القرنين يقتربان
لكن الأمهات الجزعات رفعن رؤوسهن
وعبر مزارع الماشية
تعالى نسيم من الصوات سرية
يصيح بها رعاة الضباب الشاحب
على ثيران السماء.