في "ديوان التماريث"، يحتفي فريدريكو غارثيا لوركا (1898 - 1936) بالحب كموضوعة مركزية، الحب باعتباره تجربة وجودية قاسية ومُرَّة مع مؤانساته وخيباته وحميميته.
لوركا في هذا الديوان يعيد إحياء الأشكال والأغراض الشعرية، الغنائية العربية فيطلق على نصوصه الشعرية التسمية الاصطلاحية العربية موزعاً نصوصه إلى غزليات وقصائد، بل وأطلق على الكتاب اسم ديوان، وكأنه يعيد الماء إلى النبع، أو يرجع قصيدته إلى جذورها الأندلسية العميقة.
هناك العديد من الروايات التي تلح على أن لوركا تعرّف على الشعر العربي الأندلسي، هو والعديد من شعراء جيله، من عُرفوا بـ "جيل 27" وهو ما يؤكّده المستعرب الإسباني إيميليو غارسيا غوميث الذي عمل من أجل إعادة الموروث الأندلسي إلى الواجهة باعتباره عمقاً مرجعياً ثقافياً يجب أن يساهم في تشكيل وعي شعري وتاريخي جديد.
كان لوركا يمتلك وعيه الخاص والمتجذّر بهذا العمق المرجعي الثقافي قبل ذلك بكثير، وهو ما تكشف عنه قصائد عديدة من كتاباته الأولى من مثل قصيدة "البيازين" أو "غرناطة مثل سلطانة" أو "غرناطة: مرثية متواضعة"، التي يعود تاريخ نشر لوركا لها إلى 25 حزيران/ يونيو 1919، وقد نشرها الشاعر في جريدة "رينوفاثيون"، الجريدة المحلية التي كانت تصدر في غرناطة، والتي نستشهد بها هنا لنقدّم دليلاً لا يقبل الجدل حول وعي لوركا بالانتماء لهذه الثقافة العربية الأندلسية المتجذرة في عمق الإنسان الغرناطي الشاعر والمرهف.
غرناطة.. مرثية متواضعة
غرناطة، مرثيتك تبوح بها النجوم
التي تثقب من السماء قلبك الحالك.
يكشفها الأفق التائه في سهلك الخصيب.
يكررها اللبلاب المهيب الذي يسلم ذاته
لِلَّمْسةِ الخرساء لبرجك العتيق.
غرناطة، مرثيتك صمت صَدِئٌ،
صمت قد ماتَ بعنفوان الحلم.
حينما انكسر سحركِ، جفَّتِ الدماءُ من شرايينكِ،
واستُنْزِفَ العطر الذي حملته أنهارك
في حَبابِ الدَّمع نحو البحر الهادر.
صوت الماء مثل غبار قديم
يغطي شرفاتك وغاباتك وحدائقك،
ماء ميت هو دم أبراجك الجريحة،
ماء ميت هو كل الروح لألف ضباب متحلل
يجعل الأحجار من الزنبق والياسمين.
غرناطة أنت اليوم ترتفعين ميتة وإلى الأبد
في جلبة الثلج وفي كفنِ الشمس،
هيكل عظمي جبار لسلطانة ممجدة
تلتهمها غابات الغار والورد
وأمامها يسهر ويبكي الشاعر الإسباني.
غرناطة اليوم ترتفعين محروسة بالسرو
(جذواتٌ متحجِّرةٌ لِوَلهِكِ القديم)
قد فصل عن حضنك حقل البرتقال الذهبي،
ها نخلة إفريقيا المفتتنة كنزٌ،
ووحدَهُ ثلج الماء يبقى وأغنيته.
أبراجُك الآن ظلالٌ ورمادٌ حصاكِ،
ها يهدمك الزمن والحضارة
تضع رأسها فوق بطنك المقدس.
وتلك البطن التي كانت حبلى بالشراسة
واليوم هي بعد ميتة ما زالت تقاومُ الدَّنس.
أنت التي كنت قديماً تمتلكين فيضَ الوردِ
حشودَ مقاتلين براياتٍ تخفق مع الريح،
مآذن مرمر بعمامات من حرير،
أثوالاً موسيقية في ممراتٍ محفوفةٍ بالحَوَر
وأحواضاً مثل أبي الهول من الماء إلى السماء.
أنت التي كنت قديما تمتلكين ينابيع الشذا
حيث ارتوت قوافل بهية من أناسٍ
قدَّموا لك العنبر قرباناً مقابل الفضةِ
التي بدهشةٍ رأتْها عيونُ الشَّرق كامنة
في ضفافك مصبوغة باللون القرمزي.
أنت، يا مدينة الحلم، ويا مدينة القمر المكتمل بدراً
يا التي آويت الوله الجبار للعشق،
واليوم ميتة تستريحين فوق رُبَى حَمراءَ
وتكتشفين بين اللبلاب العتيق لأطلالك
النبرة المتألمة للعندليب العذب.
ما الذي غادر أسوارك إلى الأبد، يا غرناطة؟
قد كان العطر القوي لسلالتك الفاتنة
التي تركت فيض ضباب إذ تركتكِ:
أو لربما أن حزنك حزن فطرة فيك
ومنذ ولدت ما زلت بعد مستغرقة في التفكير
مورطة أبراجك في اشتباكات الزمن الذي مضى؟
واليوم أيتها المدينة المكتئبة للسروة والماء،
في لبلابك العتيق يتوقف صوتي.
أغرقي أبراجك!
أغرقي قصر حمرائك العتيق.
فهو ذابل ومحطم يئن فوق الجبل،
يَوَدُّ لو يتعرَّى من أوراقه مثل زهرة مرمرية.
يجتاحون جهاتك بالظلام الكثيف.
يتناسون السلالة الخصبة التي شكلتك،
واليوم إذ يدنس الإنسان سحرك الموحش
أوَدُّ لو ينام غنائي بين أحضان أطلالك
مثلَ طائرٍ أثخنَهُ بالجِراح قنَّاصُ نُجومٍ.
اقرأ أيضاً: لوركا: البحث عن بقايا الشاعر