على الرغم من التغريدات والبيانات النارية الصادرة عن البيت الأبيض بشأن التجارة ومعاقبة الدول ذات الفائض التجاري مع أميركا، عبر رفع الرسوم الجمركية وحظر بعض السلع والخدمات، فإن العديد من خبراء المال يرون أن هذه التهديدات من المستبعد أن تصل إلى حرب تجارية شاملة تهدد الاقتصاد العالمي وأسواق المال.
ويرون أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، المعروف بسياساته المربكة للحلفاء والأعداء على السواء، يستخدم هذه النزاعات ضمن "تكتيك تفاوضي"، لانتزاع أكبر تنازلات ممكنة على الصعد التجارية والمالية.
ويلاحظ أن ترامب تراجع أكثر من مرة عن تغريدات قاسية ضد بكين ومعاقبتها تجارياً. وعاد في المرة الأخيرة ليصف الرئيس الصيني جين بينغ شي، بأنه صديق حميم.
في هذا الصدد يشير الخبير في مصرف "جي بي مورغان" الأميركي ماركو كولانفيك، في تحليل بهذا الصدد، إلى أن ترامب لن يستطع تحمل تداعيات الحرب التجارية سياسياً، لأن هذه الحرب ستقود إلى انهيار سوق "وول ستريت"، وهو أهم إنجازاته، وبالتالي ربما تكون الحرب التجارية، في حال اشتعالها حقيقة، أحد الأسباب الرئيسية في خسارة الحزب الجمهوري للأغلبية في الكونغرس بانتخابات أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
ويرى كولانفيك أن خسارة الأغلبية ستفتح الباب أمام إقالة ترامب الذي يواجه تحقيقات معقدة وسخطاً من قبل أغلب أعضاء الكونغرس من الحزب الديمقراطي والجمهوري.
من جانبه يرى مصرف "غولدمان ساكس" الأميركي، في تحليل على موقعه، أن تهديدات ترامب بالحرب التجارية وتشدده مع شركاء التجارة، ربما لا تعدو أن تكون جزءاً من "التكتيك التفاوضي"، لانتزاع أكبر قدر من التنازلات من الشركاء الكبار، مثل الصين ودول الاتحاد الأوروبي واليابان وكندا والمكسيك.
يذكر أن اقتصاديات هذه الدول الواقعة تحت مدافع تهديد ترامب تعتمد بدرجة كبيرة على السوق الأميركي، وحريصة على عدم فقدان هذا السوق الاستهلاكي الضخم. ومن هذا المنطلق يستخدم ترامب نقطة الضعف هذه في الضغط على خصوم التجارة من الحلفاء كالاتحاد الأوروبي واليابان وكندا الصين وغيرهم، فيما يشبه الابتزاز. ويقدر حجم السوق الاستهلاكي الأميركي بأكثر من 11 ترليون دولار سنوياً.
ويشير مصرف "غولدمان ساكس" في تحليله إلى أن أية حرب تجارية ستكون لها تداعيات سالبة على سوق الأسهم الأميركية. ويملك معظم أثرياء الحزب الجمهوري حيازات كبرى في الشركات التي تشكل سوق المال الأميركي، وبالتالي، فإن الحرب التجارية ستكون مضرة بفرص فوز الحزب الجمهوري، حسب البنك الأميركي.
من جانبه، يرى خبير الأسواق من شركة "داتا تريك" الأميركية، نيك كولاس، أنه رغم التهديدات المتبادلة بين واشنطن وبكين من جهة وبين بروكسل وواشنطن من جهة ثانية، فإن ترامب ليس حريصاً على فقدان هؤلاء الشركاء وإنما يسعى إلى انتزاع تنازلات والتأكيد على قيادة بلاده لدفة المال والاقتصاد في العالم.
ويعيب منتقدو ترامب، حتى من مناصريه، أنه يتعامل بأسلوب التاجر الذي يبحث عن ربح سريع من دون وضع حساب لخسارة قضايا استراتيجية كبرى في المستقبل.
ويقول كولاس، إن أسواق المال تعتقد أن ترامب سينسحب من معركة النزاع التجاري في أي وقت، سواء مع أوروبا أو حتى مع الصين، حين يرى أنها تتجه نحو حرب تجارية حقيقية، وأنه سيخسر اقتصاديا في النهاية.
ويرى كولاس أن ترامب لن يضحي بالنجاحات التي حققها في سوق المال، ويضرب مثالاً على ذلك بشركات التقنية الأميركية التي تحقق نحو 48% من دخلها من الأسواق الخارجية في آسيا وأوروبا، وأن هذه الشركات تشكّل النصيب الأكبر في الانتعاش الحقيقي الذي عاشته "وول ستريت"، وبالتالي فإن أية حرب تجارية ستنعكس على أسواقها الخارجية وعلى دخلها وربحيتها وربما تقود إلى انهيار أسهمها في البورصات الأميركية.
وحتى الآن يواصل سوق المال الأميركي الاستفادة من التهديد بالحرب التجارية التي بات لا يصدقها ويتجاهلها المضاربون، فيما تنفعل بها تعاملات المستثمرين في أسواق المال الآسيوية والأوروبية وتحدث ربكة في تقييم أسهم الشركات الكبرى ذات المصالح التجارية بالسوق الأميركي.
ومن أمثلة الفائدة التي جناها سوق المال الأميركي من التهديد بالحرب التجارية، هروب المستثمرين من سندات اليورو إلى أدوات الدين الأميركية، وهو ما ترجم خلال الأسبوعين الماضي والجاري في انخفاض العائد على سندات الخزانة الأميركية أجل 10 سنوات إلى أقل من 3.0%، مقارنة بما كانت عليه قبل أسبوعين، إذ ارتفع العائد مقترباً من 3.25%.
وحسب مراقبين فإن التهديد المستمر من قبل ترامب بفرض مزيد من العقوبات على السلع والخدمات الأوروبية قلل من الجاذبية الاستثمارية لأدوات المال الأوروبية. ولكن يجب ان يضاف إلى هذا العامل ما تمر به إيطاليا من فوضى سياسية، وما يحدث من سقوط حكومة وتشكيل أخرى في إسبانيا.
على الصعيد السياسي الداخلي، يعارض العديد من أعضاء الكونغرس سياسة الرسوم التي فرضها ترامب وما صحبها من الاستعداء التجاري المباشر لدول حليفة مثل ألمانيا واليابان.
ويرى أعضاء من الحزبين الجمهوري والديمقراطي أن الرسوم المفروضة على السلع المستوردة سترفع من الأسعار في أميركا، وبالتالي ربما تزيد من معدل التضخم الذي سينعكس سلباً وبشكل مباشر على السياسة النقدية.
وتجد سياسة المواجهة التجارية الشاملة التي ينفذها ترامب معارضة من مستشارين كبار في السياسة الخارجية، وذلك على أساس أنها تقود تدريجياً إلى عزل أميركا وإضعافها، في وقت تقوى فيه الصين ويتزايد نفوذها التجاري والمالي في أسواق العالم.
وبالتالي، يقول خبراء إن سياسة رفع الرسوم وخروج واشنطن من الكتل التجارية تزيد من النفوذ الصيني في أسواق العالم وتضعف من النفوذ الأميركي، إذ إن الدول التي تخرج عن المحيط التجاري والاقتصادي الأميركي ستبحث عن داعم كبير لها، ولن تجد غير بكين، كما سبق أن حدث لباكستان التي تحوّلت من المعسكر الأميركي إلى المعسكر الصيني.
على الصعيد الصيني، كشفت المحادثات الأخيرة التي جرت في كل من بكين وواشنطن، على مستوى عالٍ، بشأن ملف النزاع التجاري، أن العاصمتين الأميركية والصينية قررتا عدم خوض حرب تجارية والامتناع عن فرض أي زيادات على الرسوم الجمركية بينهما، ولكنهما أقرّتا بأن تسوية كل المشاكل ستستغرق وقتاً طويلاً.
وقال وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين، قبل أيام، إن الولايات المتحدة والصين اتفقتا على إطار "مهم للغاية" بشأن علاقتهما التجارية والاقتصادية، واتفق البلدان على وقف الحرب التجارية. وفي مقابلة مع شبكة (فوكس نيوز)، قال منوتشين إنه خلال المشاورات الاقتصادية والتجارية، التي اختتمت، حقق البلدان "تقدماً مهماً للغاية".
وفي الصدد ذاته، نقل البيان الختامي عن نائب رئيس الوزراء الصيني، ليو هي، تأكيده أن "الطرفين توصلا إلى توافق ينص علىعدم خوض حرب تجارية وعلى التوقف عن زيادة الرسوم الجمركية من قبل كل منهما".
من جانبه يرى آدم بوسن، رئيس معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، أن الصين نفّذت إجراءات لخفض فائضها التجاري وإعادة هيكلة اقتصادها، وهو أمر جيد بالنسبة للاقتصاد العالمي.
وقال إن الصين تجري تعديلات مهمة في الميزان التجاري وهيكلة الاقتصاد بما يخدم المصالح الأميركية، وإن واشنطن ستحصل على مزيد من الحوافز التجارية في المستقبل.