لماذا يغيب الغرافيتي في موريتانيا؟

20 اغسطس 2017
(أولاتا، موريتانيا، تصوير: ألدو بافان)
+ الخط -

 

جولة قصيرة، في العاصمة الموريتانية نواكشوط، كفيلة بجعلنا نلاحظ غيابًا كليًا للغرافيتي في شوارعها. ولن يكون صعبًا علينا إذّاك إدراك أسباب ذلك الغياب الذي، ربّما مع عدم اعتياديته المدينية الحديثة بالنسبة لبعضهم، سيبدو لنا طبيعيًا وعاديًا على الأقلّ في مدينة مثل نواكشوط تمتازُ بتقلّباتٍ عديدة على مستويات حياتها.

غياب الغرافيتي عن شوارع نواكشوط يستدعي مباشرةً التساؤل عن: مدى عصريتها؟ وتاريخها السياسي والاجتماعي والاقتصادي القريب منذ تأسّست كعاصمةٍ وطنية منتصف القرن الماضي تقريبًا؟ كما أنه يتطلّب منّا كي نفهمه معرفةً بجغرافيتها، وخصوصًا في الجانب الرسمي أو لنقل المؤسّسي منها، إضافةً إلى ذلك إلقاء نظرةٍ على الواقع الحالي للبحث عن المعوقات التي يصعب في ظلّها ظهور ممارسة حقيقيّة للغرافيتي في نواكشوط.

إنّ المجال الجغرافي لنواكشوط، حتى هذه اللحظة، هو مجالٌ غير مضبوط أو معروفٍ بدقّة. ونتيجةً لذلك فنواكشوط تبقى مستعصيةً على أيّ إحاطة بها، نظرًا لأنها تتمدّد وتتغيّر بإرباكٍ دائم لأغلبية القاطنين فيها أيًا كانت صفتهم. فحتى إن كان القاطن "أصليًا" فإن نواكشوط، لأسبابٍ عديدة، كثيرًا ما تبدو له غير مألوفةٍ، ما يجعله، بالتالي، يشعرُ بغربةٍ تتجلّى بوضوحٍ في نوعٍ من النفور يطبع علاقته بها. ولعلّ مما يعزّز تلك الغربة، المُعاشة ضمن دوائرها وشوارعها وأحيائها، ظهور جهازٍ بيروقراطيّ كثيرًا ما أكدّ من خلال تعامله الفوقي والعنيف في شتى النواحي، على هامشية السكّان.

بالإضافة إلى العنف البيروقراطي الذي يواجهه غالبية السكان، في شتى نواحي حياتهم، فإنّ التغيّر المربك عمرانيًا ومجاليًا لنواكشوط أدّى إلى تسطيحٍ كليّ، في أغلب الأحيان، لعلاقة السكان معها. فأصبحوا، نتيجة ذلك الحال، لا يشعرون بانتماءٍ مدنيّ عميق لها من شأنه أن يوفّر بعض المقاومة أو العزاء إزاء الواقع القاسي المحيط بهم. يتّضح هذا التغيّر المربك عمرانيًا ومجاليًا إذا ألقينا نظرةً، مثلًا، على عمليات الخصخصة الزبونية المتزايدة بكثرة قلصّت، في المقابل، وجود أي مجالٍ جغرافي عمراني عمومي مفتوح أمام المواطنين السكان لتجريب ذواتهم في جوّ من الحرّية.

من خلال ذلك التقليص الكارثي المظهر، في أعين غالبية السكّان، للمجال العمومي سنجد خيطًا أوليًا يمكننا من فهم الغياب الكلي للغرافيتي في نواكشوط، لكن كيف ذلك؟ بوصفه أساسًا ممارسة فنية حديثة فإن الغرافيتي قائم على تصوّر عمومي أو غير احتكاري للمجال الجغرافي المديني، لهذا نجده ينتشرُ أصلًا، في أكثر حالاته، داخل الساحات أو الشوارع أو الأمكنة العمومية المفتوحة معبّرًا بطريقته عن رسائل سياسية واجتماعية تعني العموم. وبما أنه في موريتانيا، وخصوصًا في نواكشوط، لا يوجد ذلك التصوّر العمومي للمجال الجغرافيّ العام، الغائب أصلًا، فإن الغرافيتي أيضًا بقي منعدمًا.

إذ لم تقم بنية نواكشوط الحضرية والعمرانية والمجالية في الأساس على ذلك التصور العمومي الرحب، وهذا ما نجده واضحًا بشكلٍ كبير في مخططاتها الجغرافية وتنظيماتها العمرانية عمومًا. بل إنه حتى الأماكن التي توجد فيها مؤسسات الخدمات المدنية، على قلتها، بقيت غير مكتملة العمومية بفعل الرقابة البوليسية الرسمية المشددة عليها. وتلك المؤسسات هي مؤسساتٌ بقيّت أيضًا منحصرةً في الأغلب الأعم ضمن مجالٍ جغرافي في نواكشوط يُحسب على السلطة ومراكزها، الأمر الذين يفيد مسألتين عن ذلك المجال: ممارسة رقابة سلطوية شديدة ضمنه، أولًا، واحتكاره على قلةٍ قليلة ثانيًا.

يبدو واضحًا الآن أن التخوّفات السلطوية إبان النضال الحركي السرّي، مند نهاية الستينيات وعلى امتداد العقود الثلاثة الموالية لها، قد ساهمت في تهيئة الظروف لما نشاهده اليوم من غيابٍ كلي وعمومي للغرافيتي في نواكشوط. حيث إن الأساليب الاحتجاجية المنتشرة على مدار تلك الفترة، وكان من أبرزها كتابة شعارات سياسية حزبية مطلبية على الجدران، قد اضطرّت الجهات الأمنية الرسمية إلى القيام بمحاصرةٍ بوليسية للمجال الحضري الناشئ قصد ضبطه والسيطرة عليه ليعبّر عن السلطة وقناعاتها فقط. حدث ذلك بالموازاة مع اختلاق مخاوف أمنية، تُلصق في تلك الأساليب الاحتجاجية صفة التخريب غير الحضاري، وترويجها في الأوساط الشعبية، كنوعٍ من السيطرة على الأذهان بعد السيطرة على الأماكن.

على أنه، وبالرغم من عودة تلك الأساليب الاحتجاجية المتمرّدة سياسيًا في السنوات الأخيرة، تحديدًا منذ 2011، إلاّ أن ذلك لم يسهم أبدًا في ظهور ممارسة عمومية للغرافيتي بما يعنيه من تجسيد رسوماتٍ تعبيرية وفنية على الجدران والأرصفة وغيرها. وممّا يبعث على التساؤلات المحتارة في ذلك الصدد، هو أنّ الفترة الأخيرة كانت أيضًا قد شهدت في موريتانيا بروز فنونٍ كثيرًا ما تربط بالغرافيتي كالراب والفن التشكيلي والرقص كذلك. ما يؤكد أن عدم ظهور الغرافيتي، في شوارع نواكشوط، لا يعود حصرًا إلى انعدام المهتمين به أو الأدوات الفنية اللازمة، بل إنه أكثر إشكالًا من ذلك عند النظر لتعلقّه العميق بالظروف التاريخية لنشأة نواكشوط، كعاصمة وطنية، وبنيتها الجغرافية والحضرية القائمة.

لذا فإن غياب الغرافيتي في موريتانيا، مع ما يعنيه من انعدام البعد الجمالي والبصري الضروري في تكوين أي هوية مدنية حضرية عمومية حديثة يُفترض أن تكون قائمة، هو فرصةٌ مناسبة لطرح تساؤلات حول الهوية الحضرية لنواكشوط ومعاييرها السياسية والاجتماعية المسيطرة منذ النشأة وحتى اليوم. فما يبدو الآن غائبًا عن الواقع لربما يكون في المستقبل حاضرًا بقوة على أرضه. غير أن ذلك لن يكون بسهولة ما لم تحدث، على الأرجح، تغيّرات عميقة لها القدرة على صياغة شروط واقعٍ جديد.

 

 

المساهمون