لماذا يرفض الأردن الكونفدرالية؟

11 سبتمبر 2018
+ الخط -
لا يتصل الكلام السائد اليوم في الأردن بمستقبل البلد بقدر ما تنشغل النخب في الحديث عن الهوية التي تؤطر الحديث عن مشروع الكونفدرالية التي يريدها الأردن مع طرف أو كيان سياسي فلسطيني ناجز، وقبل أن يستقلّ هذا الكيان في شكل دولة أو حكم، لا يمكن الحديث عن الحالة النهائية للعلاقة بين الأردن، حكماً وشعباً، مع الأشقاء الفلسطينين سلطة وقطاعاً.
حسم الملك عبدالله الثاني الأمر، في لقاء مع متقاعدين عسكريين أخيرا، بالسؤال: "كونفدرالية مع من؟"، هذا الآخر الـ"من" غير مكتمل التشكيل في إطار دولة، أما شعبا فهو أخ وشقيق للأردنيين، وهمومه واحدة ومصيره واحد، وقد أقام الأردنيون دولة الوحدة مع أشقائهم في إبريل/ نيسان 1950 بعد ثلاثة موتمرات شعبية في عمّان ونابلس وأريحا، لكن الوحدة لم تكتمل. وللأسف، كان أغلب العرب معارضين لها، ولم تعترف بها إلا دول قليلة، لا بل شكلت جامعة الدول العربية حكومة فلسطينية في سبتمبر/ أيلول 1948 في غزة، تدار من مصر باسم حكومة عموم فلسطين.
منذ زمن الوحدة، ولاحقاً قرار فك الارتباط الإداري والقانوني مع الضفة الغربية في 1988، والذي جاء استجابة لمطالب الفلسطينيين، ظلت الوحدة بين الشعبين، الأردني والفلسطيني، باقية على الأرض، اجتماعياً وثقافياً، وظلّ التمثيل الفلسطيني للمواطن الأردني من أصل فلسطيني موجوداً في كل مسارات الإدارة الأردنية، وبقي تماسكٌ ثقافيٌّ واجتماعي بمسار الوحدة وزمنها الذي وأدته الفصائلية وحالة الرفض ومقولات التخوين والتفريط بالحق الفلسطيني الذي اتهم
الأردن به دون سواه، وكانت محطة أحداث أيلول 1970 حاسمة في تقويض أمل الوحدة. وقد تردّد أن مشروع الوحدة أعيد النقاش بشأنه بين الراحلين الملك الحسين والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات عام 1985، لكن اندلاع الانتفاضة الأولى، والذهاب إلى قرار فك الارتباط، مع الأخذ بمسار قرارات القمم العربية الداعمة للتمثيل السياسي الفلسطيني المستقل عن الأردن، جعلا عودة مشروع الوحدة أمراً طي النسيان.
ومع ذلك، وبعد العام 1970، تجاوز الشعبان، الأردني والفلسطيني، كل إرث التوتر، وتلاقى الناس في معركة بناء الوطن الأردني، والذي هو حصيلة متبقيّة لفكرة العروبة والوحدة، فأهل الأردن اليوم هم مجمع عروبي، في قبائلهم وفي مختلف مكوّنات المجتمع، فمنهم حجازيون ومصريون ومن بلاد شنقيط وليبيون، وكان أول رئيس بلدية لمدينة المفرق من أصول ليبية، جاءت عائلته بعد احتلال إيطاليا ليبيا في العام 1913، وهناك جزائريون وتوانسة، وثمّة مطبخ اقتصادي وسياسي شامي عريق ومؤثر، وهناك أكراد وتكارنة وتشاديون عملوا في تأسيس الإمارة ثم المملكة، وغيرهم كثيرون من قوميات عدة، ولم يتولّ رئاسة الحكومة أيّ من أبناء شرق الأردن، أيْ من عشائره، إلا بعد منتصف الخمسينيات من القرن العشرين.
ومع قطار الانفتاح الديمقراطي بعد عام 1989، شارك المجتمع الأردني بكل أطيافه في الانتخابات، ومع أن بعض النخب عارضت مشاركة أبناء المخيمات الفلسطينية في الانتخابات، وتمثيلهم في مجلس النواب، إلا أنّ الأمر سار عكس ذلك. واليوم للمخيمات الفلسطينية، ولبقية الأصول الفلسطينية المستقرة منذ ما قبل الإمارة وبعد النكبة ومن ثم النكسة، نواب ووزراء، وهم مواطنون يعملون في مختلف المؤسسات، ولا يُجبر ابن المخيم على البقاء في المخيم، كما يحدث في دولة عربية أخرى، وللجميع حصة من الوزارات والإدارات العامة، ولا يجري الأمر على أساس المحاصصة، بل لأنه جزء من تعدّدية المجتمع والسعي إلى دولة المواطنة.
ماذا حدث؟ ولمَ يُثار الجدل حين تطرح الكونفدرالية؟ المشكلة اليوم أنّ الحكم في الأردن، ومعه أبناء الشعب، على وعي بأن تصفية القضية الفلسطينية مطلوبة، ليس أردنياً، بل لبعض دول المنطقة. ولأن الإدارة الأميركية الحالية تريد إنهاء تهديدٍ يمسّ أمن إسرائيل، فالخيار الكونفدرالي ليس مطروحا محلياً، وليس مطلباً أردنياً فلسطينياً مشتركاً حالياً. بالعكس، الأردن داعم لخيار الدولة الفلسطينية المستقلة، وأي علاقة مستقبلية يمكن ترتيبها بين الشعبين. ولأن الأردنيين يدركون أن كل معقمات الأرض لن تبرئهم من مقولة تصفية القضية الفلسطينية، فإنهم يخشون على الهوية الفلسطينية بمقدار خشيتهم على هويتهم، ويريدون الإبقاء على الحالة النضالية الفلسطينية طالما بقي الاحتلال وظلّ.
الهوية الأردنية شرق النهر مشتركة التأصيل، مكونة من قبائل وأبناء مدن وأرياف، وأصول عربية وغير عربية. ولا تتعلق المسألة عند الأردنيين بمن ولدَ أو عاش، أو يعمل أو ينتخب في الأردن، فهذا هو الكل المقيم على أرضه، بل المهمّ عندهم حماية الوجود الفلسطيني وتثبيته في أرضه. حتى لا يقال إن الأردن أفرغ فلسطين من أهلها، وشجّعهم على الخروج منها، وقد سمع الأردنيون كثيرا من هذه الاتهامات. لكنه ظلّ متمسّكاً بخيار رعاية المقدسات في القدس، إسلامية ومسيحية. وفي زمن الانقسام، يدعم الأردن أهل غزة طبياً عبر مساهماته المستمرة في مستشفاه الدائم هناك، وفي تسهيل معاملات أبناء القطاع على أرضه.
في العقل السياسي الأردني هواجس كبيرة، وثمّة انقسام بين النخب الفلسطينية الأصل ذات الشهوة التنظيرية في المصير الفلسطيني، والتي تتلحّف بدعوى الحقوق المنقوصة. ولكن لدى الأردنيين عامة قناعة أصيلة بأن علاقتهم مع الفلسطينين هي الأميز، والأكثر صلابةً، وفيها من الإنجاز والبناء المشترك ما لم يحدث في أي بلدٍ عربي آخر، ولا يعكّرها مبتغٍ آثم على نسيج علاقة الشعبين التاريخية.
لقد أخذ الفلسطينيون كما أعطوا، وأخذ الشعبان من بعضهما قراباتٍ ومصاهرات، ولا سبيل لنقاش مصائر ذلك النسيج الطيّب، وجهود الأردن حكماً وشعباً مستمرة في دعم مسار الدولة الفلسطينية المستقلة، وفي تمكين أهل القدس من البقاء، وفي دعم حتى طلاب عرب الداخل،
"الاحتلال" كما يسمّون، للدراسة في جامعات الأردن بمكارم ملكية في كليات الطب، كي يعودوا إلى خدمة مجتمعاتهم. في حين أن الفلسطيني في دول أخرى يُبتزّ أحياناً، وتعطّل إقامته، أو تكون صعبة لكي يحصل على وظيفة. وفي الأردن هو مواطن وابن أخت وضيف وشيخ ومختار وكبير قوم ورئيس حكومة، وهذا ما يُحسب للدولة الأردنية.
صحيح أن هناك توتّراً يحدث أحياناً، ونقاشاً يُبرز انقساماً، ونرى حرّاساً للهويات، يدافعون عنها في سياق ماضوي أو تحريضي أو بهواجس الإلغاء، لكن الأردنيين، كُرداً وشيشاناً، وفلسطنيين وأبناء عشائر، ومخيمات ومغاربة والشركس والشيشان والأرمن، في عمومهم وحدويون، ولا يريدون لأحد أن يتخلّى عن هويته، ولا عن مشاعره تجاه مسقط رأسه، ما دام الجميع يرى الأردن وطنه المستحق، والذي يجب الدفاع عنه، والحفاظ عليه. أمّا كيف ينتهي مشروع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وصفقة القرن، وكيف تكسب بعض الدول في اللعب على حبائل البيت الأبيض وإسرائيل، فهذا ليس مهماً، المهم هو وحدة الشعب الفلسطيني وإنهاء انقسامه السياسي والجغرافي وقيام دولته.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.