لماذا نحب هاني فحص
للسيد هاني فحص مكانة سامية، ومكان حميم، في قلوب المثقفين الأحرار في لبنان والخارج، فهو المثقف المعمم، المنفتح عليهم بما يحملون من أفكار، تناقض ما يمكن توقعه من أفكار رجل دين "محترف"، بلباسه الشرعي الكامل واحترافه الفقه والعلوم الدينية.
لهذا، ربما، وإلى جانب شخصيته المرحة، وتواضعه الجمَّ وثقافته الموسوعية الشاملة التي تكسر المسافة التي تفرضها صورة رجل الدين التقليدية، أحبه كثيرون، لأنه، بروحه تلك، ساعدهم على الاقتراب منه، من غير أن يشعروا بأنهم تحت مجهره ورقابته وسلطة أفكاره الدينية، فخف وجَلهم، وربما شعروا في مكانٍ ما من نفوسهم بسلام وسكينة مفقوديْن في حمأة الصراع العنيف والدموي الذي فرضه تطرف الفكر الديني في السنوات الأخيرة.
كل الذين يعرفون السيد هاني فحص، حزنوا لمرضه وغيبوبته العميقة التي أصابت الناس بالخوف مما تنذر به الغيبوبة من غياب مفجع. ففي هذه الأيام توسعت الهوة بين الناس والدين ورجاله، فالمشهد المتوحش الذي ترسمه بعض الجماعات الدينية في العالم العربي تكثف الشعور بالإحباط والخسارة لرحيل رجل دين سمح، كالسيد هاني فحص، في مقام الغيبوبة الجسدية، كما كان رحيل العلامة السيد محمد حسين فضل الله قبل سنوات. عبّر المثقفون اللبنانيون من كل الخلفيات الدينية والفكرية عن لوعتهم إزاء مرض السيد هاني فحص، في الاسبوعين الماضيين، بقليل من المبالغة أحياناً، وخصوصاً الذين اختلفوا معه في رؤيته السياسية تجاه ما يجري في سورية، ووقوفه الى جانب الشعب السوري وحقه بالحرية وانتقاده حزب الله، ذلك الانتقاد المؤثر حين يأتي من رجل دين شيعي، يرفض التجييش المذهبي الذي كان فحص يرفضه منذ البدء.
عرفت السيد هاني فحص في مناسبتين، الأولى في منتصف السبعينيات، حين قدمني له، وكنت في بداية العشرينات من العمر، أبو الفهود مطر لازم، وهو رفيق شيوعي عراقي قاتل في صفوف الثورة الفلسطينية في الأردن ولبنان واستشهد في لبنان عام 1976. خدم أبو الفهود في جنوب لبنان، وهناك التقى السيد هاني فحص الذي كان قريباً من حركة فتح التي كان أبو الفهود عضواً فيها في سنواته الأخيرة، وعندما قدّمني له في منطقة صور عرّفه بـ"الشيخ الأحمر"، دلالة على الشيوعية. وكان يحلو لأبو الفهود أن يكرر أمامنا، دائماً، أن السيد هاني شيوعي القلب، مادي الفكر، لما كان عليه من رحابة نفس واتساع رؤية ومرونة في الأفكار والرؤى والتزام نضالي بقضية فلسطين وقضايا الشعوب المضطهدة.
المرة الثانية كانت قبل ثلاثة أعوام في الذكرى الثالثة لرحيل الشاعر محمود درويش، وقد قدمنا عرضاً لفيلمي "كما قال الشاعر" في مسرح دوار الشمس، ودعوت السيد هاني فحص إلى العرض، فجاء بطيبة خاطر برفقة صديق إيراني تجمعه معه أفكارٌ وقيمٌ وتجارب، كما قال.
في هذه الأيام، والسيد هاني فحص يرقد في مستشفى "أوتيل ديو" في بيروت، نحس بحزن حقيقي نابع من حبّ وتقدير لمثقف كبير، قدّم للحياة والحرية ما ينعش أرواحنا، وكأنني ببعضنا ينعون شيئاً من نفوسهم، ويلوحون بمناديل الخسارة أمام الشعور بفقدان هذا المثقف الذي أعطى لفلسطين من روحه وفكره، ووقف إلى جانب حق الشعب السوري في حريته، وانتقد سياسة حزب الله وإيران في سورية، ودعمهما النظام المستبد، وكان في ذلك كله من القلة بين المثقفين ورجال الدين الشيعة الذين امتلكوا الشجاعة للوقوف في وجه ثقافة الدهماء وسرقة الطائفة الشيعية في لبنان من جوهر سماتها ومظلوميتها التاريخية، لتساق في مشروع كارثي يدمر كل إرثها النضالي ضد الظلم والاستعمار وتضحياتها في سبيل قضية فلسطين والمضطهدين.