لماذا لم تلجأ الحكومة الأردنية إلى الملك بدلاً من "الهراوة"؟

18 اغسطس 2020
+ الخط -

لا تنفك حكومة الدكتور عمر الرزاز عن ترديد الأسطوانة المشروخة ذاتها، في سياق تبرير سياستها الأمنية ودوافعها في التعامل مع أزمة نقابة المعلمين الأردنيين، مرة من خلال وصف مطالبها بأنها استقواء على هيبة الدولة، ومرة عبر إلباسها ثوب الأجندة السياسة والحزبية و"أخونتها".

مذ بدأ حراك المعلمين الأول في سبتمر/أيلول العام الماضي، تعامل رجل الدولة المدنية وحكومة "العقد الاجتماعي الجديد"، مع جملة من المطالب الحقوقية والوعود المؤجلة بعقلية مزدوجة قوامها "آلة حاسبة وهراوة"، فحكومة النهضة التي ارتفع الدين العام للمملكة في عهدها إلى نحو 99.8% من الناتج المحلي الاجمالي حتى نهاية مارس/آذار 2020 -أي ما قبل تعمّق أزمة كورونا- رفضت بداية منح المعلمين علاواتهم المتفق عليها منذ سنوات، وتنصّلت من اتفاقها الذي وقعته مع النقابة في تشرين الأول من العام الماضي، لعجزها المالي. بالمقابل، صرفت مبالغ طائلة على حملاتها الأمنية والإعلامية ضد النقابة!

هذه المبالغ المصروفة للتعامل مع الأزمة، كانت ستحل جزءا من أصل الخلاف لو تخلت الحكومة عن عقلية المحاسب، واستعملت عقلية الإداري الآخذ بعين الاعتبار كلف الربح والخسارة الحقيقية على المشهد العام.

هناك قوى شد عكسي أانتجتها المصالح وتحالفات السلطة والمال، من خارج الحكومة، تعمد إلى تعطيل خارطة الإصلاح وتجميدها، وتوسيع الفجوة بين القصر والحكومة والشعب

 

لا تريد الحكومة أن تقتنع بأن حراك المعلمين، وردود الفعل الشعبية الواسعة المتضامنة والداعمة له، يرسل إشارات تحذيرية تنبئ بوجود كتلة مجتمعية باتت تتسع أفقيا وعموديا، وتتناسب طرديا مع تعمق إحساسها بالظلم على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي وأيضاً السياسي.

ومن غير المنطق أن يواجه الإحساس بالظلم -في عُرف الدول الديمقراطية بخاصة- بمزيد من الإجراءات القمعية وتكميم الأفواه، وبثّ الخطابات التفتيتية والتخوينية والعنصرية بين أفراد المجتمع. أو بتحويل الدولة لشركة خاصة يرفع فيها المدير (السلطة التنفيذية) إصبعه بوجه موظفيه (الشعب) محذراً من التشكيك بأقواله وأفعاله.

وكان الأولى هنا أن تتخلى الحكومة عن عقلية الأحكام العرفية والقبضة الأمنية، تجاه شعب أحسن نواياه ونحى خلافاته وانكساراته جانبا، والتف حولها طوال فترة الجائحة، قبل أن تنقلب عليه وتعود "لعادتها القديمة". فالتشكيك يواجه بالشفافية والوضوح، والإجابة عن تساؤلات الناس بالأرقام والحقائق دون تزييفها أو تشكيلها، بدلا من الخطابات المعلبة البائسة.

وليس منطقيا أيضاً أن تستمر الحكومة وأذرعها بإجراءاتها وقراراتها في إعاقة الرؤى الملكية الطامحة إلى تعميق التحول الديمقراطي، والمطروحة عبر سلسلة أوراق نقاشية، اعتمدت في جوهرها على الحوار والمشاركة الشعبية في صنع القرار كأساس لعملية الإصلاح.

لا ننكر أن هناك قوى شد عكسي أنتجتها المصالح وتحالفات السلطة والمال، من خارج الحكومة، تعمد إلى تعطيل خارطة الإصلاح وتجميدها، وتوسيع الفجوة بين القصر والحكومة والشعب لمبررات تتعلق بمصالحها الخاصة والخوف على نفوذها وثرواتها، غير أن هذا لا يعفي الحكومة من مسؤوليتها باعتبارها الأداة التنفيذية لرؤى الملك.

ولا يمكن لنهج الإصلاح أن يستقيم على أرضية مجتمعية مفتتة، بفعل عوامل الترهيب والاسترضاء والتهديد والإغراء، خصوصا مع غياب العدالة الاجتماعية، وتنامي الشعور بالظلم والتهميش لدى فئة كبيرة من المجتمع، مقابل مزايا ممنوحة لفئة أخرى لقاء التغاضي عن أخطاء السلطة وكبواتها و"التوقيع على بياض".

فما نشهده اليوم من تناحر على وسائل التواصل الاجتماعي بين المنقسمين حول قضية المعلمين وغيرها، عبر المقالات العنصرية والاتهامية، والفيديوهات المجتزأة، والأغاني الساذجة، ما هو إلا انعكاس لهذا النهج الذي يمنح ويمنع بغير حق، حتى لم نعد نستغرب محاولات البعض "التطوعية" لامتطاء الموجة، طمعا في بعض المكاسب أسوة بهذا وذاك ممن "شنّص" معهم الحظ وتغيرت مواقعهم، أو فازوا ببضعة دنانير من فوق الطاولة أو تحتها.

الإساءة هنا لم تقتصر على صورة المعلم أو من يقف مع قضيته المطلبية والمعيشية فحسب، بل انسحبت على هيبة الدولة التي تدّعي الحكومة حمايتها عبر سياستها القمعية وأحكامها العرفية.

وعلى الرغم من امتثال وسائل الإعلام الرسمية لأوامر منع النشر، فإن الإعلام البديل، ووسائل التواصل الاجتماعي أتاحت للعالم أن يشاهد ويسمع ما يجري في الأردن، المعروف بحضاريته واحترامه للكيانات المجتمعية المحمولة على أكتاف الديمقراطية، والمنتخبة من منتسبيها انتخابا حرا. فهل تشويه صورة الدولة المشرقة أمام الدول العربية والغربية، الصديقة منها والبعيدة وحتى المانحة، إساءة لهيبة الدولة في قاموس الحكومة أم لا؟!

وفي السياق ذاته، فإن الأردن يتحضّر للانتخابات النيابية القادمة، وسط مناخ متوتر ومنقسم ومأزوم ومحبط، والخشية ألا يمضي هذا الاستحقاق الدستوري بالصورة المثلى، إذا استمرت المماطلة أكثر في حل الخلاف بعدالة ومسؤولية تتحملها وتتشاركها جميع الأطراف.

بكل الأحوال، أنصح الجميع بالعودة إلى الورقة النقاشية الأولى، ففيها تشخيص المعضلة وفيها الحل، لو توافرت الإرادة السياسية الجادة لذلك.