لماذا تأخرت كل هذا الوقت للحصول على وشمي؟

09 نوفمبر 2014
قررتُ وضع اسمه وشماً على جسدي (Getty)
+ الخط -
أتذكر أنّ أوّل مرّة رأيت فيها وشماً، كان على وجه امرأة كبيرة في السنّ. كانت تلك المرأة من الغجر، أولئك الذين لا يستقرون في مكان، بل يظلون يجوبون القرى طوال السنة من دون أن يبدو عليهم تذمّر أو ملل أو تعب. كانت تلك المرأة تحضر إلى بيت جدي في القرية اللبنانية الجنوبية، حيث اعتدنا أن نقضي فترة العطلة الصيفية، وهي تحمل الكثير من الأكياس والجعب، وتلبس طبقات فوق طبقات من القماش الملون، واضعة عصبة شدت بها على رأسها، ويظهر من تحتها شعرُها المحنّى بلونه الضارب إلى البرتقالي.
رأيت على وجهها، ما بين الحاجبين وعلى الذقن، خطوطاً ونقطاً وطلاسم باللون الأزرق المخضّر. تتجمع حولها نساء القرية على المصطبة، حيث ترمي الوَدَع وتبدأ بقراءة البخت والمستقبل المجهول. كنت طفلة، أراقب المشهد وأربط بين لهجة المرأة غير المفهومة، بالنسبة إلي، والصَدَف المرمي على الأرض والطلاسم الموزَّعة على وجهها. وقتها بدا الوشم شيئاً سحرياً وقديماً آتياً من أمكنة وأزمنة بعيدة.

حين رسمت على وجهي خطوطاً بقلم "البيك" الأزرق، حفَّتها جدتي بالليفة والصابون حتى زالت. ذهبت باكية إلى جدي أسأله عن سبب زوال خطوطي، بينما خطوط البصارة ثابتة على وجهها. وقتها أخبرني أن تلك الخطوط لم تكن رسماً وإنما هي موشومة بالإبرة والحبر تحت الجلد. وصار مجرد تخيّل الوشم رعباً بالنسبة إلي، أنا التي كنت أهرب من إبرة البنسلين التي تحضرها الممرضة، مرة كل شهر، لتؤلمني بها. قررت أن لا أوشم جلدي أبداً.
في الثمانينيات بدأت ألحظ نوعاً آخر من الوشوم مرتبطاً بفكرة "الشباب الزعران". لم تكن طلاسم بدائية، وإنما رموزاً وكتابات شعبية، كتلك التي نراها على الشاحنات والباصات، كـ (عين الحسود) و(سيف ذو الفقار)، أو القلب الذي يخترقه سهم إلى جانب اسم الحبيبة، و"رضاك يا أمّي". لم تكن مكتوبة بأسلوب فني يعتمد على جماليات الخط العربي وإنما بطريقة تشبه الرسوم الفطرية، التي نراها على جدران بيوت القرى.

تغير المشهد في التسعينيات، وصرت أرى وشوماً على وجوه النساء لا تشبه تلك التي في ذاكرتي على وجه البصّارة العجوز. وشوم تجميلية تخطط كحل العين والحواجب وتكبّر الشفاه. لم يقتصر الوشم آنذاك على تثبيت الماكياج على الوجه، إذ تعداه إلى الجسم، فبدأت تظهر وشوم "أنثوية"، وردة أو فراشة أو جناح على الكتف أو الساق.
في تلك الفترة أيضاً انتشر الوشم سريعاً بين إناث وذكور جيل الشباب، وارتبط بثقب الأنف والحاجب والشفة واللسان، لوضع الحلي المعدنية الصغيرة. لم يعد الوشم حينها متصلاً بثقافة محلية لها مرجعية تاريخية. على العكس، بدا كأنه تأثر كاملاً بموضة غربية، قدم نموذجها نجوم الموسيقى والسينما ولاعبو كرة القدم. بعد تلك الموجة الأولى من الوشوم التي تقلد ما تراه على جلد المشاهير، أصبحت الوشوم أكثر "نضجاً"، فبدأت تظهر على أجساد الجيل الشاب عبارات وتصاميم أكثر فنية وشخصية، وكأن الموشوم يضعه ليعبر من خلاله عن هوية فردية خاصة وعن رؤية فنية محددة وشخصية.

حين كان ابني في التاسعة أو العاشرة من عمره أصرّ على الحصول على وشم لنمر شرس أو جمجمة مع عظمتين. وقتها، بالطبع رفضت، ولم أدع رفضي بلا تفسير. أخبرته أن الوشم خيار سيرتبط به مدى العمر، وأنه لم يبلغ سن الرشد ليتمكن من اتخاذ هكذا قرار، وأنه سيحملني في المستقبل وجود رأس نمر سخيف على جلده، وأن لديه الحرية الكاملة في وشم ما يريد حين يصبح في الثامنة عشرة، وهو ما فعله حين بلغ ذلك العمر. يومها، أراني على زنده رمز السلام الذي اعتمده الهيبيّون في الستينيات، المرحلة المفضلة لديه.

لم أكن أظن أنه في يوم ما سأقوم أنا أيضاً بوشم جلدي متحملة وجع الإبرة. أخيراً، بعدما سبقني ابني، في الخمسين من عمري، قررت وضع اسمه وشماً على معصمي. دخلت مرهوبة إلى محل دقّ الوشوم المجهز بالمعدات الحديثة والحلي والألوان والرسوم على الجدران. أعطيته تصميم الاسم ليبدأ عمله، لم أشعر بالوجع بل بمجرد زكزكة خفيفة. مع بداية ظهور الاسم على جلدي بدأت أتذكر وجه صاحبة الودع وطلاسمها، وأفكر في الجملة التي قلتها لابني عن معنى الخيار الذي نرتبط به لمدى العمر، ولكنني صرت أتساءل من جديد: لماذا تأخرت كل هذا الوقت للحصول على وشمي؟
المساهمون