كنتُ أبحث عن ترجمة عربية دقيقة لعنوان لوحة "The Disquieting Muses" للرسّام الإيطالي جورجيو دي كيريكو (1888 - 1978)، دون جدوى. في المكتبة، لديَّ كتاب يشبه القاموس. للأمانة أفتحه لأول مرّة. كتاب ضخم وغلافه ذو تصميم أزرق رصين باللغة الإنكليزية. قلت سأجد ضالتي في هذا القاموس. ثم تبيَّن لي أنه عبارة عن مجموعة من المقابلات أُجريت مع مجموعة من المسرحيّين؛ مثل جوناثان ميلر، وبيتر سيلارز، ولويس باسكال وغيرهم.
كتاب "في اتصال مع الآلهة"، أو "in Contact with the Gods"، أهداني إياه صديقٌ نرويجي تبادلت معه حديثاً قصيراً عن المسرح في فلسطين. كنّا نجلس في شرفة منزله في ترومسو، أقصى الشمال النرويجي، ندخّن السجائر بعدما حذّرنا من إشعال أي سيجارة في الغرفة: أي سيجارة يتم إشعالها هنا، ستجلب الشرطة في غضون خمس دقائق.
- ثم؟
- ثم سندفع ضريبة طائلة. جرّاء قدوم الشرطة لإنذار وهمي.
ثم أهداني الكتاب. وضعته في المكتبة ولم أعد إليه. نسيته. لكنني عدت إليه اليوم باحثاً عن اسم اللوحة، ثم وجدتُني أقرأ شيئاً آخر. يسأل الصحافي المسرحيَّ الإنكليزي جوناثان ميلر: "ما هي طموحاتك الآن؟"، فيجيب: "طموح؟ في هذا العمر؟ لا يوجد عندي طموح. عندي آمال صغيرة أريد تنفيذها. لكن عمري الآن لا يسمح أن يكون لي أي طموح".
لوحة "ربّات الفن القلقات" (The Disquieting Muses)، التي رُسمت عام 1918، تمتاز بالحس الخريفي المفرط. فيها تماثيل لربّات الفن الإغريقيات: "ثاليا" إلهة الكوميديا، و"ملبومين" إلهة التراجيديا، و"أبولو" إلهة الحكمة، مع تعديلات على الرؤوس... كلّها مجتمعة في لوحة واحدة، تُفقد هذه الربات وظيفتها الأسطورية أو تتجرّد من الحس البشري الذي امتازت به تماثيل الأساطير القديمة؛ إذ تمتزج فيها عناصر غامضة، خصوصاً على رؤوس التماثيل، كما تمنح المسافة بين عناصر اللوحة تفوّقاً أو سموّاً للعناصر ذاتها.
ولعل قصدية خفيّةً تقف في مكانٍ ما أرادها دي كيريكو من وراء هذه اللمسة التفكيكية/ التدميرية للربّات، ممّا منح اللوحة شعوراً بالوحدة والوحشة، وهو "الشعور" الذي صبغ أعمال فنّاني تلك المرحلة؛ مرحلة التصنيع والحداثة وسلطة الفرد. إنها باختصار لوحة تُعلي الصمت والخلود في مقابل الجمال.
وبالوصول إلى منطق الجمال، يأتي سؤال: هل يمكن للأشياء أن تكون جميلة، دون تلك العقيدة الراسخة في الذهن بأنها جميلة، أو بالتجاوز عمّا قاله الفرنسي ايكزوبيري: لا تنبع معاني الأشياء من الأشياء ذاتها، بل من موقفنا نحن منها؟
الموقف الشخصي من الجمال أو "أيديولوجيا الجمال" لا يعدو كونه ترسيخاً لذاتية الإنسان الضيّقة وانحسارها في هوامش الطيف الواحد، طالما أنها لا تستطيع الوصول بنفسها إلى الذائقة المدرّبة على الكشف، الذائقة المدرّبة على التجاوز؛ تجاوز الأنا وأهوائها المسطّحة، إلى التحليق عبر الأنات (جمع أنا) وأطيافها اللامحدودة اللانهائية، وصولاً إلى الجوهر المتحرّر من سطوة القشرة وطغيان حضورها.
في العام 1957، استعارت الشاعرة الإنكليزية سيلفيا بلاث (1932 - 1963) اسم اللوحة لكتابة واحدة من أعمق قصائدها بالعنوان ذاته، موجّهًةً إلى والدتها التي حاولت تعليمها "مهارات مقبولة"، وقصّت عليها قصصاً عن "الساحرات اللواتي يُخبّئن أنفسهن في شطائر الزنجبيل"، و"الريح التي تهدّد بالنفخ في نوافذ غرف الأطفال". في القصيدة منسوبُ لوم عالٍ لوالدتها. لكن بلاث تحيل الربّات الإغريقيات الثلاث إلى ثلاثيات أخرى شرّيرة في آداب القرن العشرين وما قبلها كشقيقات الجنون في أعمال توماس دي كوينسي، وأقدار ساحرات ماكبث الثلاث في عمل شكسبير.
هذه لوحة تنتمي إلى مدرسة ما قبل السوريالية، تضعك وجهاً لوجه أمام التجريد في الفن بكل ما يحمله التجريد من معنى.
* كاتب من فلسطين