للربيع لحن نعرفه

20 نوفمبر 2014
الحالة الحيادية اقل ضرورة وأكثر ضررا (محمد عبلة/مصر)
+ الخط -

تأتي أهمية الفن فاعلا في تشكيل صورة عن الوسط الذي ينبثق منه، وينطق أو يحاول النطق بلسانه، وتتحدد بمدى قدرة العمل على التأصيل لذاته ولمجتمعه وتقديمهما، إذْ إن الفن ليس وليد الصدفة؛ إنما هو عصارة تجربة إنسانية في مواجهة الحياة بالدرجة الأولى، ومحاولات الإنسان دوما للنهوض بغد أفضل حسب ما يتفق مع رؤاه ومصالحه. ولا مجال اليوم، وبتوفر مختلف مجالات التعاطي مع الفنون المتعددة، من الرواية والمسرح إلى الفن التشكيلي والتعبيري حتى الفوتوغرافيا.. إلخ، أن يتم صرف النظر عن جمالية وتأثير وتأثر الفنون في حركة الواقع.

وحركة الواقع هنا لا تنفصل عن الكون بحيث يشكل الأخير مساحة حرة مكانية وزمانية لإبداع الإنسان، الذي لا يكبله أو يطلقه على السواء إلا الإنسان ذاته وشكل علاقته بالسلطة، أيا كانت. كما نجد في عالم التحولات المتسارعة وبفضل تقنيات الاتصال والمعلوماتية، أن الحالة الحيادية اقل ضرورة وأكثر ضررا، وحسب وصف بليخانوف "أن الميل إلى الفن لأجل الفن يظهر من حيث وجود تنافر بين الفنانين والوسط المحيط بهم".

ولذلك كان الشيخ زكريا أحمد، وكان محمد بيرم التونسي وسيد درويش، كما جاء بعدهم إمام عيسى، وناس الغيوان، ولحقهم صاحب "يا زهر الرمان" سميح شقير، وعاش يوماً من أوجد "حنظلة" ناجي العلي، وآخرون كثر غيرهم عبروا بكلمة ولحن وضربة ريشة أو قلم، قدموا أدبا، وفنا، أو ربما يكفي القول إنهم قدموا ما لديهم، أو جادت تجاربهم به.

وليس من المفاجئ أن نجد من هؤلاء من يستعاد اليوم، ومن يحضر أكثر من حضوره في زمانه ربما، وكأن الآوان آوانه، بما هو زمن للرفض، زمن دعوة للتغير، جاء فيه ربيع الشعوب كاشفا، على الرغم من ما واجهه واعترض طريقه وما يزال.

ومن الممكن إطلاق الكثير من الأحكام، أو لنقل التعريفات والتوصيفات على شكل علاقة الفن بالمجتمع، وعلاقة الفنان، أو المبدع، أو المثقف بالثورة، وبالناس، كما بالسلطة. لكن ما هو أساسي، في لحظتنا العربية الراهنة، وأكثر من أي وقت، هو الوقوف قبالة ألوان الفن على تعددها وتنوعها، والنظر ملياً في طبائع المشتغلين والمشغولين فيها، دون إغفال آليات ومسارات رؤيتها النور.

إذ إن عجلة الزمن، اليوم، ليست هي ذاتها التي كانت حين سُخرت الشاشات والإذاعات والمسارح لترتدي لونا واحدا، هو لون السلطان، لكي تخدم نسقا عسكريا رماديا تغنى بذاته وبمشاريعه ومنجزاته، التي لم توجد إلا على تلك الشاشات وعبر تلك الإذاعات المُسخرة، أو التي سخرها ضمن سياق مشروع تسلطه، وأن يخيم السكوت على هذه البشاعة، كانت هذه إحدى سمات المنتج الفني المهيمن عربيا، لفترة ليست بالهينة، ويمكن تلمس امتدادها وحضور ربيبي مدرستها حتى اليوم، الذي ليس يومها، لا لسبب قدر ما أن الشباب العربي لم يعد يقبل بها كما رفض الأصابع التي تحرك خيوطها غير الخفية. إلا أن سطوة فن السلطة لا تنفي وجود ما هو مخالف ومعارض ومختلف، وما هو غير مدجن، أو ما هو ثوري، على الدوام. حيث، وفي الوقت الذي كان فيه التساوق طبعا لدى قطاع واسع في المسرح والسينما والدراما والموسيقى.. إلخ. لم يختف صوت القديسين أصحاب الألسنة التي تجيد الـ(لا)، ووجد هؤلاء دوما من ينشدهم ويبتغي ما لديهم، لأنه منه وله وعنه.

والثورة بما هي لحظة فعل، يتراكض فيها التاريخ كاشفا سوءاته ومثالبه، كما يظهر أجمل ما فيه، وثورات الشباب العربي في ربيعه غير شاذة عن هذا، فقد كشفت وبينت الكثير من الخفي، كما أكدت أو نفت الوفير من الواضح أو المشاهد، فبحضورها سقطت أسماء وبانت أخرى، احتكت بالناس فأبرزت معادنهم، وطرحت الأسئلة أمام التيارات، لكنها لم تترك لأحد الخيار، فإما مع الثورة والشعوب وإما عليها؟!

و"الفن الثوري"، أو ما قدمه الثوريون في مسيرة الفن عربيا، يبرهن على ما لدى الشعوب العربية وشبابها من روح ونوايا وطموحات حرة، وهوية نضالية تنظر إلى النابت على عتبة السلطة لتقول "ليس هذا ما يليق بي".


راسلونا على:jeel@alaraby.co.uk

المساهمون