لك يا منازلُ

23 ديسمبر 2014
هاني زعرب، الربيع العربي لم يكتمل بعد
+ الخط -
ما المكان؟ ما المدينة؟ لا شكّ في أن الجواب يختلفُ إلى حدّ كبير لو كان المجيب مهندسًا معماريًا، إذ إن اجتماع الطرق والجسور والأنفاق والأبنية والمؤسسات الرسمية والمشافي والمدارس والأسواق وغيرها من المعالم قديمها وحديثها، هي أوّل ما يخطرُ في باله، وهي التي، في ظنّه، تشكّل الهوية المدينية للمكان.

ويكاد وصف المدن لناظِرها، أيًا يكن، يزداد سهولةً إن أراد رصف مناظرها وما تحتويه. بيد أن هذا الوصف يغدو أمرًا مؤلمًا حال كانت المدينة في حالٍ في التلاشي والاختفاء. ها هنا، تؤدّي الذاكرة دورها في تثبيت كلّ تفصيل، وتتخذ دورها في خزن صور المكان الآيل إلى التغيير عبر عوامل "خارجية" مجازًا، إذ هي أدنى إلى الكوارث كتلك التي من صنع البشر ضدّ بشر غيرهم؛ الاحتلال والغزو، القصف والتدمير والتهديم، أو عوامل خارجية فعلًا مثل الكوارث التي تصنعها الطبيعة؛ زلازل وفيضانات وبراكين.

وقد كان الفارس الأمير أسامة بن منقذ في دمشق، حين وقع الزلزال الذي أفنى مسقط رأسه شيزر، بشرًا وحجرًا. دفعته تلك الكارثة إلى جمع منتخبات من الشعر العربي القديم تدور في فلك معنى المكان وأهل المكان؛ "المنازل والديار: ديوان الحنين إلى الأوطان، وملاحم الشوق إلى الأهل والخلان". أراد الشاعر الفارس علاج نفسه الكسيرة ممّا ألمّ بها من خسارة لا تعوّض. لكنّه فعلَ أيضًا أمرًا آخر، فقد دوّن سيرته الذاتية، التي تعدّ الأولى عربيًا، في كتاب ثانٍ شهيرٍ: كتاب الاعتبار. 

وإذ يتضافر موضوعا الكتابين: توثيق المكان، وكتابة السيرة، نصلُ إلى "معادلة" إن صحّ التعبير، نعرفها اليوم عن ذاك المكان النحيل السليب، فلسطين. فـ "النكبة" التي أصابته، دفعت أهله، بعد صمتٍ فرضته الصدمة، إلى الكتابة والتوثيق والتأريخ. إذ لعلّ عدد الكتّاب نسبةً إلى عدد السكّان هناك كبيرٌ مقارنةً ببلاد أخرى.
 
فجأةً يحسّ الناس أنهم "شاهدون على العصر" وأن من واجبهم تدوين ما يجري أمام ناظرهم، وكيف تسرّب المكان من بين أضلاعهم بغتةً. وتختلفُ مراتبُ التدوين؛ منها التأريخي السياسي، كأن يكتب الوجهاء ومن في رتبة صنع القرار كتبًا، قليلًا ما تبتعد عن التحيّز، ومنها سير الأدباء المشهورين التي قد تكون أدنى إلى الواقع، فحيواتهم مشرّعة سلفًا أمام القرّاء، رغم جرعة الخيال والحنين التي يفرضها قلم الأديب السائر دومًا صوب البلاغة. 

بيد أن ثمّة سيرًا للأفراد العاديين، للناس المغمورين، الذين لا ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم شاهدين على العصر تمامًا، بل باعتبارهم شاهدين على حيواتهم هم فحسب. حيواتهم التي تبدو وكأنّها لا تهم أحد حقًا. فتكون كتابتهم أقرب إلى البوح وعلاج الروح من مشاكل الحياة وأوجاعها. ومن سطور سيرٍ مماثلة تتسرّب شبكةٌ ممتدّة من العلاقات الاجتماعية التي تتضافر وتتشعّب لتؤلّف روح المكان وذاكرته التي يصنعها كلام الناس وأحاديثهم. فالناس هي التي تصنع مكانها من خلال نسق العادات التقاليد والأعراف الآراء والمواقف، لتغدو كلّها نسخةً بشريةً للمدينة، توازي نسخة العمران التي تشغف المعماري وهاوي التصوير. وبكلام أفضل، فإن المدينة هي حالة ذهنية كما كتب لعالم الاجتماع الأميركي روبيرت بارك. 

وإذ تؤلّف الناس عبر علاقاتها في ما بينها، مدنها البشرية، فإنها في الوقت عينه تؤلّف كما لا يخفى هويتها. وعوّدة إلى فلسطين، لا يسعُ المرء إلا أن ينظر في المدوّنة الكبيرة التي قيّد فيها الكتّاب والأدباء والباحثون والسياسيون، وصفًا دقيقًا للمكان، حدّ أنه يتيحُ لغير الفلسطيني تصوّر أماكن بعينها؛ فمن لا يعرف وادي النسناس وشارع عبّاس في حيفا مثلًا؟ أو حي الشيخ جرّاح في القدس القديمة؟ أو غيرها من تلك الأماكن التي انجبلت صورتها بهوية أهلها وكلامهم وأحاديثهم؟ 

لكن مقابل تلك المدوّنة الكبيرة التي قدحت زنادها النكبة، ثمّة مدوّنة أخرى، شغفت على ما يبدو عالم الاجتماع الفلسطيني سليم تماري، الذي حرّر وحقّق سير أناس مغمورين إلى هذا الحدّ أو ذاك، أمسكوا القلم، وكتبوا سيرهم، من دون أن يخطر في بالهم، أنها ستشكّل كنزًا معرفيًا لسليم الذي يرى تبلورًا خاصًا للهوية الفلسطينية قبل النكبة، قوامها تلك العلاقات الاجتماعية والعادات السائدة التي تعطي فكرةً مختلفةً عن المكان وأهله.

إذ إن الفترة العثمانية هي التي تأسره، وتحديدًا عند أفولها، أيام تلك الحرب التي كانت تسمّى الحرب العظمى. لم يكتفِ العالِم اليافاوي بتلك السير، بل له كتب أخرى، لعلّ من أهمها كتابه، مع باحثين آخرين،عن "الأحياء العربية في القدس ومصيرها في حرب 1948"، الذي يبحث في نمو المدينة خارج الأسوار، وتحديدًا في نهاية الفترة العثمانية، خاصّةً تلك الأحياء التي سلختها إسرائيل كالقطمون والطالبية والبقعة وغيرها وابتكرت لها اسمًا كذوبًا؛ القدس الغربية. لا، لا شرقية ولا غربية بل قدسٌ شريف كما يقول سليم.


المساهمون