لعنة المعرفة

19 يونيو 2015
المعرفة فاتنة تغمز لك، تتبعها فتتمنع عنك (Getty)
+ الخط -
ستحل عليك يوماً ما.. لحظة تظن أنك عرفت كثيراً. أسمعت بحكاية تلك العنكبوت التي أخذت تنسج لنفسها بيتاً فتعثرت وتشبثت الخيوط بها، فلا هي قادرة على التملص منها ولا هي سعيدة ببيتها.

تلك هي المعرفة. خيوط تحيكها حول نفسك تتطلع طيلة تلك السنين في زيادتها وكثافتها فتجدك قد نسجت على ذاتك ما يبقيك مكتوفاً، لا أقول مكتوف اليد بل مكتوف العقل والفِكرة.
شقيَّةٌ هي المعرفة.. تُمنيك بالصعود إلى القمة التي يظهر منها كل شيء، فتتكبد دهراً وعورة الصعود لتجد غشاوة الضباب تحجب عنك، فتتكئ على صخرة تنتظر الضباب أن ينقشع.. ولا ينقشع.


المعرفة.. تلك الفاتنة التي تغمز وتتغنج لك، فتتبعها وتتمنع عنك، فتزداد رغبةً وشغفاً بها، حتى إن كادتْ وكدتَ وقاربت وصالها، استحالت تلك الشقية بجعة بيضاء تطير من بين يديك، فلا أنت تنساها ولا تطالها.

"ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم" ما أتعس النعيم حين تعيشه بشقاء، وما أطيب الشقاء حين تعيشه بنعيم، كم هو سعيد ذاك الذي يجهل أشياء كثيرة، ويعيش في كنف دوغماته ومسلماته التي تجلب له السكون والراحة والطمأنينة، هَبْها خرافةً.. هبها خيالاً.. يكفيه أنه يؤمن بها وتجلب له السلام، سعيد لا تنغصه الشكوك وحسرة الحقيقة.
ألا تعرف أي أن تظل الحياة أجمل، أن يبقى عندك أمل، ألا ترى أمثلة كثيرة فتعقد المقارنات بينها، كل شيء محدود، وتبقى المساحة الأوسع لخيالك الجميل، فكلما اتسعت معارفك ضاق خيالك.

لا أجد مشهداً دراميا يحاكي تلك الحالة من النشوة والحماسة التي تجدها في بدايات قراءاتك، وأنت تتفاخر بكمية الورق التي قرضتها -على حد تعبير زوربا-، وأنت تظهر بمظهر المرجع والقاموس بين أقرانك، وأنت تُسأل وتُجيب ويُدَوّن جَوابك، ثم تحل عليك اللعنة فتبدو بائساً حائراً تود لو أنّ أسئلةً ما سأَلتَها وأَجوبة ما عرفتها، تشتهي لو تتحدر من جبل حين تدرك أن ما قضيت عمرك شيباً وصلعاً وصداعاً من أجله ما زادك إلا معرفة برهبة الفراغ الذي تقبع فيه، وما أبقى لك إلا عودة بالنقض على جميع معارفك، لا أجد مشهداً يمثل تلك الحالة النفسية أقرب من حال "بَازْ يطير" [Buzz Lightyear] في فيلم "توي ستوري" [Toy Story] وهو ممتلئ حماسة للطيران إلى اللا نهائية وما بعدها، ثم يكتشف أنه مجرد لعبة.
"زيادة المعرفة زيادة في الألم" كما قال البائس بمعرفته شوبنهور، وأعظم الألم برودةُ جسدك من الداخل حين تزول عنه طمأنينة يقينك فلا تجد لِحافاً يورثك دفئاً، كم من المعارف تشتهي فقط مسحها، ترجع كأنك ما دريت ولا تليت، ولا مناص لذلك.

إلهي.. إني مقيم على تلك الصخرة.. فاقشع عني الضباب الذي يحجبني عن سر المعرفة ويريني ما وراءها، أو ابعث إليَّ ما ينسيني ما عرفت.

(الكويت)
المساهمون