لعبة الكراسي الموسيقية في العراق

10 سبتمبر 2014

زعماء عشائر عراقيون خارجون من اجتماع مع بول بريمر(2يونيو/2003/أ.ف.ب)

+ الخط -

لو قدّر لصاحب نظرية "الديمقراطية التوافقية"، الأميركي آريند ليبهارت، أن يشاهد "لعبة الكراسي الموسيقية" التي تجري على المسرح السياسي في العراق، هذه الأيام، لهاله الأمر،  ولاستشاط غضباً، وهو يرى، بأم عينيه، كيف يتسابق الساسة على الكراسي الوزارية، وقد تناسوا خلافاتهم واختلافاتهم، وبدوا في أقصى درجات الحميمية والود، وشمّر كل منهم عن ساعده، ليحصل على أكبر حصة ممكنة له من الغنيمة، ولأدرك، على وجه اليقين، كيف أفسد هؤلاء نظريته، وحولوها إلى عملية لاقتسام الغنائم، كلٌّ، حسب تأثيره ونفوذه وفاعليته، ومن دون اهتمام بالجمهور العام، صاحب المصلحة الحقيقية في بناء الديمقراطية وتجذيرها.

وليبهارت هذا، والذي ربما لم يسمع به الساسة العراقيون الذين يلوكون مقولة التوافق، كل يوم، كان أساس نظريته في ضوء تجربة بلاده الأصلية، هولندا، التي تضم مكونين رئيسيين، الكاثوليك والبروتستانت، إلى جانب مكونات أخرى أقل تأثيراً. وفي حينها، شكلت الاختلافات والصراعات العقيدية شرخاً داخل المجتمع، ضرب تطلعات السكان وطموحاتهم في الصميم، وكان لا بد من بناء تحالفٍ عريضٍ، ذي برنامجٍ وطني، يقوم على أساس التسامح الديني، ويسعى إلى ترسيخ مبدأ المواطنة الحرة المتساوية، ويضمن حقوق كل المكونات، ويعطي حق الفيتو المتبادل للأكثريات والأقليات، ويمنع احتكار السلطة، أو تموضعها في مركز واحد، ولم تعط التجربة لأي مرجع كنسي حقاً إضافياً للتدخل في شؤون الدولة، أو لتقرير سياسات البلاد، وفي ظل هذا المنهج الديمقراطي التوافقي، الذي ضمن تنمية سياسية مدروسة، تقلصت حدة الفروق المجتمعية بين الكاثوليك والبروتستانت، والعلمانيين أيضاً، وغدا المجتمع متجانساً إلى حد كبير، ومؤهلاً للتخلي تلقائياً عن "التوافقية" في الحكم، ومنتقلاً إلى الديمقراطية التمثيلية في ستينات القرن المنصرم، من دون خسائر أو مضاعفات، وقل ذلك، أيضاً، عن دول أوروبية أخرى.

لكن، الحال في التجربة العراقية مختلف تماماً، فقد خلقت تلك "الوصفة الفانتازية" التي جاء بها بول بريمر باسم المحاصصة الطائفية شروخاً حادة في المجتمع العراقي، وقد شرعن هو نفسه حقاً إضافياً للمرجعية الشيعية للتدخل في سياسات البلاد، وهو أمر لم يعرفه العراق منذ تأسيس دولته الوطنية عام 1921، إذ لم يتسن لأي مرجع ديني أن يمارس سلطة القرار، أو حتى المشاركة أو المشورة فيه. يكفي أن نرجع إلى مذكرات بريمر المنشورة، لنكتشف أنه تبادل مع السيستاني، بشكل منتظم، أكثر من ثلاثين رسالة في أربعة عشر شهراً. وبالطبع، لم تتضمن هذه الرسائل بين الحاكم الأول للعراق والمرجع الأعلى لأكبر طائفة دينية سؤالاً عن الصحة والأحوال فقط، إنما لتبادل المشورة في السياسات العليا للبلاد، بعيداً عن سمع وبصر المواطن العادي الذي لم يكن يريد أن تهتز ثقته بمرجعيته.

الوصفة نفسها أتاحت لبريمر أن يضع في السلطة، بحجة إنضاج صيغة "ديمقراطية توافقية"، رجالاً وصفهم بأنهم "يفتقرون الى الصدقية"، لكنه برر ذلك كونه لم يجد "عراقيين وطنيين شرفاء ونشيطين لحكم العراق". وكان الرئيس السابق، جورج بوش، قد سبقه في إدراك جهل هؤلاء حتى بأوضاع بلادهم التي يزعمون أنهم عارضوا الحكم السابق من أجلها، إذ وبخهم قبل الغزو، بقوله: "هل يعرف أحدكم مكان سكناه في العراق، حتى يعرف ما يجري في بلاده اليوم؟".

إذن، ليس ذنب "الديمقراطية التوافقية" أن يتم، وعلى مدى أكثر من عشر سنوات، تجاهل إرساء يرنامج وطني جامع، يتخطى الانقسامات والاختلافات بين العراقيين، ويعمل على رأب الصدع بين مكوناتهم في إطار تعدديةٍ، تضمن حرية التفكير والمعتقد، ويسعى إلى تجذير هويةٍ وطنيةٍ موحدة (بكسر الحاء وبفتحه أيضا)، ويرسخ حقوق المواطنة المتساوية، التي تشكل مرتكز دولة مدنية حرة، تتخطى الطوائف والأعراق، كما ليس منتظراً من "الديمقراطية التوافقية" أن تحول هؤلاء الرجال "الخردة" بجرة قلم إلى حكماء يدركون كيف تبنى الدول، وكيف تساس المجتمعات، وخصوصاً المجتمع العراقي الذي يمتلك تراثاً من التعددية في الأديان والمذاهب والأعراق والملل والنحل، وتاريخاً عريضاً لأحزاب سياسية، يستند بعضها إلى مرجعيات دينية، وبعضها يرفع رايات مدنية، إلى جانب ميليشيات ومافيات، ظهرت على السطح، في ظل "الفوضى الخلاقة" التي صنعها الاحتلال، وقد تعلمت تلك الميليشيات والمافيات من السياسيين، كما تعلم منها السياسيون الكثير.

ولم يعد العراقيون الذين اختبروا هذا النمط من الديمقراطية، طوال هذه الأعوام العجاف، في وارد متابعة الفصول الجديدة من هذا الخليط من المشاهد التراجيدية والكوميدية، التي تجري على المسرح السياسي، ولم يعودوا في وارد الانسياق وراء "لعبة الكراسي الموسيقية" الجارية الآن. يكفيهم هموم التشرد والخوف وفقدان الأمل.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"