الرياضيات صعبة، والعلوم معقدة، لقد عانينا كثيرًا في المرحلة الثانوية والجامعية لكي نفهم ما تقصده معظم المناهج، أضف إلى ذلك أن قطاعاً عريضاً من الشباب العربي قد بدأ بالسعي خلف التعلم الذاتي للعلوم والفلسفات، سواء كان ذلك لدعم سيرته الذاتية، وتطوير مهاراته في نطاقات معرفية تتعلق بعمله، أو لغرض التعلم الصرف فقط.
لذلك، وعلى الرغم من أن أساسات التعلّم واضحة، وهي تتضمن بذل كل قدر ممكن من الجهد على مدى زمني منظم، والتركيز في مهمات محددة على مدى تلك الفترة، مثلًا، فإن هناك بعض الإضافات المفيدة جدًا التي يمكن لها أن تساعدك على إتمام مهمتك بنجاح، لكن دعنا نوضح نقطة مهمة قبل البدء، وهي أن الجميع سيخبرك بآليات مهمة، ومختلفة، لكن لا شيء مؤكداً هنا، استكشف طريقك واختر ما ترى أنه يناسبك فقط.
دعنا هذه المرة نحاول هضم أحد أهم الأفكار التي تعرضها الدكتورة باربرا أواكلي، أستاذة الهندسة في جامعة أوكلاند، وصاحبة المساق الشهير على منصة كورسيرا "تعلم كيف تتعلم"، إذ تبدأ أواكلي مساقها بفكرة التركيز، لتقسم آلية عمل الدماغ إلى طريقين، الأول يتعلق بالتركيز المباشر Direct Mode على مشكلة محددة، أي بذل كل الجهد الممكن لهضم تلك المادة، والثاني يتعلق بالدوران حول المشكلة ويسمى "التركيز المنتشر Diffuse Mode".
يعني ذلك الدوران حول المشكلة، إذا كانت هناك نقطة ما لا تستطيع فهمها في منهج الفيزياء الفلكية، أو مسألة في امتحان التفاضل، أو جزء من مادة اجتماعية عن الرأسمالية تتعلمها ذاتيًا، يعني أن تتركها قليلًا للتفكير فيها من جوانب أخرى غير الجانب الذي اعتدت عليه عبر التركيز من النوع المباشر، كأن تخرج قليلًا للتمشّي أو أن تنام قليلًا أو أن تمارس نشاطاً آخر، لكن الأمر ليس بتلك البساطة.
لا يكون من السهل أن تنقل نفسك بين نوعي التركيز بسهولة، فقد تخرج للتمشّي ويظل تركيزك على نفس الفكرة قائمًا، يتطلب الأمر أن تسترخي قليلًا، يتصور بعض متخصصي الإدراك والتربية أن ممارسة هواية جانبية كالرسم مثلا، أو العزف على آلة موسيقية، كان أداة كثير من العلماء والفلاسفة للاستغراق، بين نوبات التركيز الشديد، في حالة التركيز المنتشر، لكن في كل الأحوال، فإن التدريب على التقلب المستمر ما بين النظامين، التركيز المباشر والدوران حول الفكرة، يصنع منها عادة دماغية تمارسها بشكل تلقائي بعد فترة.
في الحقيقة يحيلنا ذلك الحديث عن التمارين أو العادات التي تساعد في حالة التركيز المنتشر إلى الفيلسوف الكبير فريدرك نيتشه صاحب المقولة الشهيرة "كل الأفكار العظيمة تولد أثناء المشي"، وفي كتابه "عقول المستقبل" يسأل ريتشارد تومسون عدد ضخم من المفكرين، والعلماء، والأدباء، وأصحاب الشركات الكبرى: "أين يمارس البشر أعمق تفكيرهم؟"، لتتفق الإجابة في كل مرة مع تصورات د. أواكلي.
فمثلًا يقول هاورد جاردنر، أستاذ التعلم والإدراك بجامعة هارفارد، في الرد على تومسون، "على مر عقود، أعتقد أن أفضل الأفكار تأتيني عندما أزور بلداً أجنبياً، بعيداً عن الالتزامات والقيود، وأجلس في مكان حسن، في مقهى مثلًا بالقرب من بحيرة"، وذلك هو أيضًا ما تقوله أستاذة علم الأدوية بأكسفورد "سوزان جرينفيلد": "عندما لا أعمل أو أكون مسافرة".
أما دوجلاس سيث شوستاك، عالم الفلك الكبير من معهد سيتي، فيجيب على السؤال بـ "عندما أتمدد على السرير في الظلام، مع صوت طنين في الخلفية صادر عن جهاز راديو بدون بث إذاعي، قد يتوفر لدي أحيانًا بعض من البصيرة المتواضعة"، في كل مرة كانت الإجابة متعلقة بنشاط بعيد عن حالة التركيز المباشر، في تلك الحالة يتعلم المخ أن يغير من طريقة إدراكه للأمور عبر جوانب عدة، ويساعد ذلك في إيجاد حلول أكثر للمشكلات.
لكن في تلك النقطة يجب أن نشير إلى مشكلتين رئيسيتين تواجهان المتعلم وتقفان في طريقه حينما يحاول الاستجابة لآلية التفكير المنتشر، الذي يدور حول الموضوع: الأولى هي التسويف، فقد يخطئ بعضهم بالخلط بين هذا النمط في التعلم بالتركيز المنتشر وبين أن تستمر في تأجيل المهام الأكثر تعقيدًا، والتسويف للأسف يتحول سريعًا إلى عادة تمارسها دون أن تدري، ليس على مستوى السلوك فقط، ولكن على مستوى خلايا دماغك أيضاً.
يبدأ الأمر بأن تواجه مشكلة ما في مادة تدرسها، المثالية الكانطية في الفلسفة مثلا، هنا – تقول الأبحاث – إنك تشعر بدرجة من الألم الجسدي الحقيقي في أثناء محاولاتك الأولى للخوض فيها، وينقسم البشر تجاه تلك الصدمة لنوعين، نوع يصبر قليلًا، حيث ينتهي هذا الألم بعد فترة حينما تظهر الألفة مع المادة، ونوع آخر يتوجه فورًا لشيء جديد ويؤجل هذا الذي كان يستذكره قبل قليل، لكن هذا الأخير يحوّلها إلى عادة دماغية قاتلة.
يكون الحل بأن تبدأ بإلقاء نفسك فورًا في خانة التركيز المباشر، لمدة قصيرة، تقترح أواكلي أنها 25 دقيقة، ثم تخرج للنمط المنتشر من التركيز لمدة قصيرة، لتكن 10 دقائق مثلًا، ثم تستمر الدورة حتى تألف المشكلة، وتبدأ في هضمها، لكن في النهاية لا يمكن أبدًا أن تركز على إنهاء المهمة المنوطة بك، ركز فقط على التنويع بشكل منتظم بين النمطين، في الحقيقة ينقلنا ذلك للمشكلة الثانية.
المشكلة الثانية، وهي ما نظن أنه الأهم، هي مشكلة الاستعجال، والتسرع من أجل إنهاء مادة علمية ما كي تنتقل إلى التي تليها، هنا دعني أشبه عملية التعلم بعملية خسارة الوزن، لقد اكتسبت الوزن الحالي – ليكن 95 كغم مثلًا – في عشر سنوات من الأكل المستمر للحلويات والمشروبات الغازية، والآن تود أن تخفض من وزنك.
هنا سوف تلجأ للأعشاب، وللأدوية، وللأحزمة، وسوف تدور بين مئتي نوع من الريجيم، لأجل أن تخسر في شهر واحد فقط وتصبح 60 كغم مثلاً، لكنك لا تدرك بعد أن المشكلة بالأساس أنه كما استجاب جسمك ببطء لزيادة الوزن، سوف يستجيب ببطء أيضًا لنزوله، لذلك، وبعد دوران طويل في دوائر التسرع، سوف تكتشف أن الحل هو ببساطة، أن تهدأ، وتصبر، وتنتظر.
هكذا هو الأمر بالنسبة للتعلم، فإن تسرعت لن تصل إلى أي مكان، سوف تتنقل فقط بين كتب ومساقات المبتدئين لسنوات عدة، إن وضع العلوم والمعارف في أدمغتنا أشبه بإزالة الدهون، يحتاج الأمر للوقت الكثير، والصبر، والتمرن بشكل منتظم، ومع طريقة أواكلي (التركيز المنتشر والمباشر) ستمتلك فرصة، ربما، أفضل لاجتياز المشكلات التي تواجهها أثناء تعلمك.