01 نوفمبر 2024
لحماية اللغة العربية في تونس
تقدمت الكتلة الديمقراطية في مجلس النواب التونسي، في الأول من فبراير/ شباط الجاري، بمشروع قانون يتعلق بترسيخ اللغة العربية، ودعم استعمالها وتعميمه، باقتراح جمعية الدفاع عن اللغة العربية في تونس. ويذكّر المشروع في وثيقة شرح الأسباب بأن توطئة الدستور التونسي فصلت القول، وحسمته، بأن اللغة الرسمية للبلاد التونسية هي العربية، كما أن هوية الدولة عربية، ودعّم هذا التمشي الفصل الدستوري عدد 39 الذي ينص على أن "الدولة التونسية تعمل على ترسيخ اللغة العربية ودعمها وتعميم استخدامها". وميزة هذا القانون المكون من ثمانية عشر فصلا، بما في ذلك الأحكام الختامية، لا يتضمن ثرثرة وبكائيات عما وصل إليه حال اللغة العربية بوصفها اللغة الوطنية، من تهميش وهتك عرضها والاعتداء عليها والتلاعب بها وتشويهها وتلويثها كتابة ونطقا، في وسائل الإعلام، وفي شبكات التواصل الاجتماعي والفضاء الافتراضي، وفي واجهات المحلات، وحتى في الاستعمال اليومي، بسبب الازدواجية اللغوية الهجينة، وعقدة الدونية اللغوية المنتشرة في صفوف بعض النخب والطبقات الوسطى، وإنما ينحو إلى إلزام الحكومة، ومختلف السلطات، إلى جعل العربية لغة التعامل وتبادل المعلومات والوثائق مع الإدارات الرسمية، وفيما بينها، وأن تكون لغة المؤسسات الخاصة والعمومية في تعاملها مع العموم، وأن تستخدم في كل عمليات الإشهار والإعلان وعلامات التسعير والترقيم والمعاملات التجارية وبراءات الاختراع في جميع المجالات العامة والخاصة، حسب ما جاء في الفصول، الثاني والثالث والرابع، من المبادرة التشريعية.
ويلزم القانون أصحاب العروض الإشهارية التجارية المكتوبة والمنطوقة والمصورة بالفيديو أن تكون بالعربية، أو بلهجة محلية وبحروف عربية، على أن يكون الاستعمال الاستثنائي للكلمات الأجنبية مترجما ومكتوبا في أسفل الشاشة. وينسحب هذا الأمر على صانعي الأدوية والأجهزة الإلكترونية والكهرومنزلية والميكانيكية وكل التجهيزات المشابهة ومورّديها، وعلى واجهات
البرمجيات والتطبيقات الإعلامية الموجهة للمواطنين أو الموظفين وتلاميذ مدارس التعليم الأساسي. وفي مجال الإعلام، يشير القانون، في فصله عدد 11، إلى ضرورة استعمال القنوات التلفزية والإذاعات والصحف العربية الفصحى أو اللهجات المحلية، من دون الخلط مع لغة أجنبية أيا كانت. وفي حين يبدي النص مرونة بقبوله استعمال اللهجات المحلية في مجال الإعلام والاتصال، فإن فصله الثاني عشر الذي يتناول الشأنين، التعليمي والتربوي، جاء صارما، داعيا إلى أن "تعمل الدولة على تعريب كتب الدراسة للتعليم الأساسي والثانوي بالنسبة للمواد العلمية ولغة التدريس في الإجازات التي تؤدي إلى مهنة التدريس في التعليم الأساسي والثانوي". وتتكرّر الدعوة بالنسبة للتعليم العالي في كل الشهادات العلمية والهندسية "على أن يكون تدريس اللغات الأجنبية والترجمة منها وإليها ضمانا للتواصل العلمي والانفتاح على اللغات الأجنبية". وفي الفصل 13 ينص القانون على إحداث مؤسسة عمومية تضبط مهامها وتركيبتها بأمر حكومي، تسمى المجلس الأعلى للغة العربية، تتولى السهر على وضع اللغة العربية في تونس، وحمايتها، ومدى التزام مختلف الفاعلين بتطبيق هذا القانون، واحترام ما جاء في الدستور. وتنتهي المبادرة التشريعية إلى إقرار إجراءاتٍ زجريةٍ بموجبها "يعاقب كل مخالف لأحكام هذا القانون، سواء كان شخصا معنويا أو طبيعيا بخطية مالية تتراوح بين 1000 و5000 دينار وتضاعف الخطية عند العود".
يعد هذا القانون نصا تشريعيا متسامحا، عند مقارنته بالقوانين اللغوية التي سنتها المجالس التشريعية الفرنسية، حماية ودعما للغة الفرنسية. فقد عرفت فرنسا المناقشات المتعلقة بالقضية اللغوية منذ قيام الثورة الفرنسية، وتحديدا منذ سنة 1794، تاريخ سن قانون الثورة الفرنسية اللغوي الذي صوّت له برلمان الثورة، وبموجبه عُممت اللغة الفرنسية، ومُنعت اللغات الجهوية. وجاء في المادة الثالثة من ذلك القانون "إنه ابتداء من تاريخ نشر هذا المرسوم، كل عقد عمومي، أو خاص، لا بد من أن يحرّر بالفرنسية وحدها، ويمنع نشره بلغة جهوية. إن كل موظف أو محرّر ضبط عام، كل عون حكومي يقوم ابتداء من هذا التاريخ، بتحرير أو تقديم أو توجيه أو توقيع محاضر، أو عقود، أو أعمال أخرى، بلغة غير اللغة الفرنسية، يقدم أمام محكمة الجنح بإقامته، ويعاقب بستة أشهر سجنا، وبالطرد من الوظيفة".
ينص هذا القانون صراحة على أن استعمال لغة غير الفرنسية في فرنسا يعد فعلا آثما، مآل صاحبه السجن والطرد من الوظيفة، وهي من أقصى العقوبات قبل السجن المؤبد والإعدام. ومع ذلك، بقيت الجماعات الجهوية والأعراق الأخرى التي تخضع لحكم الدولة الفرنسية تعمل من أجل حقها في استعمال لغاتها المحلية قرنين كاملين، لكن الحكومة الفرنسية والجمعية الوطنية، وهي السلطة التشريعية، لم تستجب لتلك المطالب، وقمعتها بواسطة قانون جديد لا
يغلق الباب أمام اللغات الجهوية فقط، وإنما يحول دون هيمنة اللغة الإنكليزية التي بدأت تتسرب إلى الفضاء العام الفرنسي، وإلى الاستعمال اليومي. فقد صدر في فرنسا سنة 1994 نص تشريعي يسمى قانون لزوم الفرنسية، جاء فيه ضرورة منع استخدام ألفاظ وعبارات أجنبية في كل الوثائق والمستندات والإعلانات المسموعة والمرئية المعروضة على الجمهور وكل مكاتبات الشركات العاملة على الأرض الفرنسية. وبوجه خاص، فإن الإلزام باستخدام اللغة الفرنسية يلزم المحلات التجارية والشرائط الدعائية التي تبث عبر الإذاعة والتلفزة. واشترط القانون على البلديات والمصالح الحكومية ألا تموّل سوى المؤتمرات والندوات الدولية التي تكون الفرنسية لغتها، كما منع نشر أعمال أية مؤتمرات دولية، يشارك فيها باحثون أجانب، ما لم تتضمن ملخصات بالفرنسية. وقد تضمن هذا القانون المعروف بقانون توبون، والذي حظي بالأغلبية الساحقة لأعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية، مواد جزائية وعقوبات مالية لمن يخالف أحكامه.
القضية اللغوية هي من أمهات القضايا اليوم، والهيمنة اللغوية تعد مدخلا للسيطرة الاقتصادية والعسكرية والأمنية والسياسية، وهذا ما يسميه عالم اللسانيات الفرنسي، جان لوي كالفي، الإمبريالية اللغوية التي يمكن أن تؤدي إلى اندثار ثقافات، وضمور شعوب وانصهارها في كيانات أخرى، وإن دفاع الشعوب عن لغاتها الوطنية نوع من الحروب الناعمة التي تخوضها المجتمعات، حفظا لوجودها وكياناتها وعن حقها في النهوض والتقدم، فقد أثبتت التجارب المعاصرة في دول كثيرة كانت متخلفة، وفي مراتب دنيا، أنها نهضت والتحقت بدول العالم المتقدم، مثل الصين والبرتغال وكوريا وإسبانيا وتركيا ودول شرق آسيا، بسبب إنتاج العلوم والمعارف والتكنولوجيا وتدريسها بلغاتها الوطنية.
لا يشكل هذا القانون وسيلة للدفاع عن الهوية الوطنية فحسب، وإنما يهيئ الأرضية لإنتاج التقدم وتحرير الأجيال القادمة من الاستعمار اللغوي والعلمي والتكنولوجي، وهو قانون الثورة التونسية لحماية اللغة العربية، وتنظيم وضع اللغات الأخرى، للحد قدر الإمكان من التبعية اللغوية التي تعاني منها تونس، وتحول دون قيام مشروع وطني، فاللغة ليست أم العلوم فقط، وإنما هي أم كل مشروع وطني حقيقي.
ويلزم القانون أصحاب العروض الإشهارية التجارية المكتوبة والمنطوقة والمصورة بالفيديو أن تكون بالعربية، أو بلهجة محلية وبحروف عربية، على أن يكون الاستعمال الاستثنائي للكلمات الأجنبية مترجما ومكتوبا في أسفل الشاشة. وينسحب هذا الأمر على صانعي الأدوية والأجهزة الإلكترونية والكهرومنزلية والميكانيكية وكل التجهيزات المشابهة ومورّديها، وعلى واجهات
يعد هذا القانون نصا تشريعيا متسامحا، عند مقارنته بالقوانين اللغوية التي سنتها المجالس التشريعية الفرنسية، حماية ودعما للغة الفرنسية. فقد عرفت فرنسا المناقشات المتعلقة بالقضية اللغوية منذ قيام الثورة الفرنسية، وتحديدا منذ سنة 1794، تاريخ سن قانون الثورة الفرنسية اللغوي الذي صوّت له برلمان الثورة، وبموجبه عُممت اللغة الفرنسية، ومُنعت اللغات الجهوية. وجاء في المادة الثالثة من ذلك القانون "إنه ابتداء من تاريخ نشر هذا المرسوم، كل عقد عمومي، أو خاص، لا بد من أن يحرّر بالفرنسية وحدها، ويمنع نشره بلغة جهوية. إن كل موظف أو محرّر ضبط عام، كل عون حكومي يقوم ابتداء من هذا التاريخ، بتحرير أو تقديم أو توجيه أو توقيع محاضر، أو عقود، أو أعمال أخرى، بلغة غير اللغة الفرنسية، يقدم أمام محكمة الجنح بإقامته، ويعاقب بستة أشهر سجنا، وبالطرد من الوظيفة".
ينص هذا القانون صراحة على أن استعمال لغة غير الفرنسية في فرنسا يعد فعلا آثما، مآل صاحبه السجن والطرد من الوظيفة، وهي من أقصى العقوبات قبل السجن المؤبد والإعدام. ومع ذلك، بقيت الجماعات الجهوية والأعراق الأخرى التي تخضع لحكم الدولة الفرنسية تعمل من أجل حقها في استعمال لغاتها المحلية قرنين كاملين، لكن الحكومة الفرنسية والجمعية الوطنية، وهي السلطة التشريعية، لم تستجب لتلك المطالب، وقمعتها بواسطة قانون جديد لا
القضية اللغوية هي من أمهات القضايا اليوم، والهيمنة اللغوية تعد مدخلا للسيطرة الاقتصادية والعسكرية والأمنية والسياسية، وهذا ما يسميه عالم اللسانيات الفرنسي، جان لوي كالفي، الإمبريالية اللغوية التي يمكن أن تؤدي إلى اندثار ثقافات، وضمور شعوب وانصهارها في كيانات أخرى، وإن دفاع الشعوب عن لغاتها الوطنية نوع من الحروب الناعمة التي تخوضها المجتمعات، حفظا لوجودها وكياناتها وعن حقها في النهوض والتقدم، فقد أثبتت التجارب المعاصرة في دول كثيرة كانت متخلفة، وفي مراتب دنيا، أنها نهضت والتحقت بدول العالم المتقدم، مثل الصين والبرتغال وكوريا وإسبانيا وتركيا ودول شرق آسيا، بسبب إنتاج العلوم والمعارف والتكنولوجيا وتدريسها بلغاتها الوطنية.
لا يشكل هذا القانون وسيلة للدفاع عن الهوية الوطنية فحسب، وإنما يهيئ الأرضية لإنتاج التقدم وتحرير الأجيال القادمة من الاستعمار اللغوي والعلمي والتكنولوجي، وهو قانون الثورة التونسية لحماية اللغة العربية، وتنظيم وضع اللغات الأخرى، للحد قدر الإمكان من التبعية اللغوية التي تعاني منها تونس، وتحول دون قيام مشروع وطني، فاللغة ليست أم العلوم فقط، وإنما هي أم كل مشروع وطني حقيقي.