لحظة التبشير بالفن

25 مارس 2017
("سيّد درويش" لـ محمد خضر)
+ الخط -

اختلف أصحاب الآراء المعارضة لاستبداد السلطنة العثمانية في القرن التاسع عشر على شكل العلاقة ومستقبلها بين العرب والأتراك، حيث لم تتبلور حينها التصوّرات المؤسّسة لفكرة الأمة وظلّت تتنازعها دعوات إلى إصلاح الحكم في الأستانة أو إنشاء حكومات لا مركزية في العراق وبلاد الشام على غرار مصر وتونس والجزائر، ما ولّد انقسامات حيال هوية إسلامية أو عربية أو سورية لاحقاً.

أخذت الاجتهادات الفكرية في تلك المرحلة طابعاً نظرياً، وشهدت مراسلات بين رجال علم ودين في عدد من الأقطار، في وقت قدّمت الصحافة والمسرح والغناء تعبيرات موازية في انتقاد ظلم السلطة، وفي انحيازها لما يجمع العرب من إرث حضاري في مواجهة سياسات التتريك التي بدأت بعض ملامحها تبرز للعيان.

مع إنشاء أول صحيفة عربية في إسطنبول باسم "مرآة الأحوال" عام 1855، على يد السوري الأرمني رزق حسون الحلبي، نُشرت كتابات تهاجم مواقف الحكومة التي أغلقت الصحيفة، ما اضطر صاحبها إلى الهرب إلى روسيا ثم بريطانيا حيث توفي هناك.

ربما لم تنج صحيفة واحدة في العراق وسورية ولبنان من قرار الإغلاق حتى تلك التي أظهرت الولاء للباب العالي بسبب نشرها خبراً أو تفصيلاً يحمل طابع الاعتراض، لكن المتابع لنشأة الصحافة في هذه البلدان يلحظ اهتمامها الكبير في نشر الأدب بوصفه التعبير الأساس عن الهوية، خاصة أن أغلب مؤسسيها كانوا شعراء وكتّاب، وبشّروا بالمسرح والموسيقى وغيرها من الفنون رغم معارضة السلطة وفئات شعبية لها حدّ التحريم أحياناً.

في عام 1848، ومن منزله في بيروت عرَض مارون النقّاش (1817-1855) مسرحية "البخيل" عن نص موليير المعروف، ورغم أن مضامين أعماله ابتعدت عن السياسة، إلّا أن أهم ما يُحسب له سعيه إلى إيجاد فن مسرحي عربي يستمّد موضوعاته من الواقع الاجتماعي وتناقضاته، وسعيه لتقديم بعض القصص والمرويات من التراث العربي في مسرحياته اللاحقة.

على خطى شقيقه واصَل نقولا النقاش اشتغالاته المسرحية، في الفترة ذاتها التي قدّم خلالها أبو خليل القباني (1835 – 1902) مسرحه الغنائي في الشام ومصر، وقد واجه الإثنان معارضة شعبية واسعة في أوساط المحافظين وتحريضاً رسمياً عليهم، وقد يعود السبب في ذلك إلى اتصال المسرحيين المباشر مع الناس في المدن والقرى وإلى تفاعلهم مع قضاياهم وهمومهم.

لكن ما ثبّته صنّاع المسرح الأوائل أنهم استطاعوا تكريس دور اجتماعي للفن باعتباره انعكاساً لمجتمع ناشئ، وأنه قادر على حمل تراثه وتقديم رؤى تنويرية وحداثوية، كما قدّمه بعد عقود سيد درويش أو الرحابنة، على وجه الخصوص، ويمكن دراسة الأغنية ضمن ارتباطها الوثيق في هذا السياق.

خلاصة أخيرة تتعلّق بقدرة الفن والإبداع أن يبلور هوية عربية واستنهاض مشاعر جمعية في حقبة شهدت محاولات طمس لها، بينما لا يزال أهل الفكر والسياسة يتجادلون حول أسئلة النهضة نفسها.

دلالات
المساهمون