لجنة كوميرت والصلف الإسرائيلي
ليس إعلان حكومة نتنياهو رفضها التعاون مع اللجنة الدولية الخاصة بالتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية، إبان العدوان أخيراً على قطاع غزة، سابقة في تعامل إسرائيل مع لجان مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بل نهج مكرس في سياسات إسرائيل، نجحت من خلاله، حتى الآن، بإفلات مجرمي حربها من العقاب. وجاء رفض الحكومة الإسرائيلية لتشكيل اللجنة الدولية، برئاسة الجنرال الهولندي المتقاعد باتريك كوميرت، سريعاً وحاداً، وترافق مع اتهام تل أبيب لها بأنها "غير نزيهة واستنتاجاتها معروفة مسبقاً، نظراً للمواقف المنحازة التي يتخذها مجلس حقوق الإنسان إزاء إسرائيل"، في مسعى إلى إفشال اللجنة، قبل أن تباشر عملها، على الرغم من أن ما سبقها من لجان تحقيق، في حروب سابقة، لم ينجم عنها سوى إدانات لإسرائيل ذهبت أدراج الرياح، وآخرها عدم متابعة توصيات تقرير لجنة غولدستون، والعمل على تشويهه، في ظل تقاعس القيادة الفلسطينية تحت ضغوط إسرائيلية وأميركية وغربية.
مؤكد أن ظروف عمل لجنة كوميرت ستكون أصعب من مثيلاتها، فالموقف غير المتوازن الذي اتخذه الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، في ذروة العدوان، والموقف الأميركي ومواقف دول غربية عديدة، شكَّل تغطية على النهج الدموي لحكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة، بالإضافة إلى أنه من المستبعد أن تحظى نتائج عمل اللجنة بالاهتمام المطلوب على الصعيد الدولي والإقليمي والفلسطيني الرسمي.
لذلك، لن يكون مصير التقرير المفترض أن تصدره لجنة كوميرت أفضل من مصير تقرير لجنة غولدستون وتقرير مقرر شؤون الأراضي الفلسطينية المحتلة في مجلس حقوق الإنسان، ريتشارد فولك. لكن ما سينتج عنها يبقى مهماً لجهة فضح جرائم الحرب الإسرائيلية، لاسيما إذا أخذنا بالاعتبار ردود الفعل المتطورة نسبياً في الشارع الأوروبي ضد الحرب الإسرائيلية أخيراً على قطاع غزة، بالقياس إلى ردود الفعل على الحربين السابقتين (2012 و2008-2009)، ما أثار قلق الدوائر السياسية الإسرائيلية.
بالعودة إلى تحقيق الأمم المتحدة في جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي، في عدوانه على قطاع غزة، ديسمبر/كانون الأول 2008- يناير/كانون الثاني 2009، أصدر ريتشارد فولك تقريراً في مارس/آذار 2009، اعتبر فيه أن الحرب الإسرائيلية على غزة جريمة ضد السلام، وأكد أن أفعال إسرائيل في قطاع غزة، التي أدّت إلى استشهاد 1417 وجرح أكثر من 5000، غالبيتهم الساحقة من المدنيين، ترقى إلى مرتبة جرائم حرب خطيرة في القانون الدولي الإنساني، وأن إغلاق المعابر يعتبر انتهاكاً خطيراً لاتفاقات جنيف، ويشكل جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، وأن عمليات قصف الجيش الإسرائيلي المناطق الفلسطينية المكتظة بالمدنيين العزل جرائم حرب موصوفة.
وانتهى فولك، في تقريره، إلى المطالبة بتشكيل مجموعة مستقلة من الخبراء، للتحقيق في الجرائم التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية، باستخدام أسلحة محرمة دولياً بينها الفسفور الأبيض، وهجومها المتعمد على المدارس والمساجد وسيارات الإسعاف، وطالب، أيضاً، مجلس الأمن الدولي بتشكيل محكمة جنائية خاصة لتحديد المسؤولين في هذه الجرائم ومحاكمتهم.
بناء على تقرير فولك الذي رفضته الولايات المتحدة وإسرائيل، شكَّل مجلس حقوق الإنسان لجنة تحقيق خاصة برئاسة القاضي الجنوب أفريقي، ريتشارد غولدستون، ممثل الادعاء السابق للأمم المتحدة في جرائم الحرب الخاصة برواندا ويوغسلافيا، وقدمت اللجنة تقريراً في مايو/أيار 2009، حمَّلت فيه إسرائيل مسؤولية ارتكاب مجموعة انتهاكات خطيرة، بينها استهداف موظفين مدنيين ومؤسسات تابعة للأمم المتحدة بشكل متعمد في تسع حوادث، تم التحقيق فيها، ودانت اللجنة، في تقريرها، ضباط الجيش الإسرائيلي وجنوده بارتكاب جرائم حرب، لا لبس فيها.
إلا أن الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، سارع إلى إجهاض التقرير، تحت ضغوط أميركية وإسرائيلية، بإفراغه من مضمونه القانوني، حيث أعلن أنه لن تتم ملاحقة إسرائيل ومساءلتها قانونياً، بعد ثبوت تورطها في ارتكاب جرائم حرب ضد موظفي الأمم المتحدة ومنشآتها في غزة، وأكد أنّه سيغلق باب المساءلة، بعد عرض التقرير على مجلس الأمن، وسيكتفي بإجراء حوار مع الحكومة الإسرائيلية بشأن الحوادث التي وردت في التقرير. وفي دلالة على استخفافها بقرار مجلس حقوق الإنسان، وبما قد يصدر عن لجنة غولدستون (حينذاك).
وتمثلت الطامة الكبرى في طريقة تعاطي قيادة السلطة الفلسطينية مع تقرير غولدستون، بتأجيل الرئيس محمود عباس التصويت عليه، واستتبع ذلك ردود فعل فلسطينية وعربية ودولية، استهجنت هذا السلوك، وزادت القيادة الفلسطينية من ضبابية موقفها بمحاولة التهرب من مسؤولية تأجيل التصويت، وتحميلها للمجموعة العربية والإسلامية، ما استدعى حينها رداً من الأمين العام السابق لمنظمة المؤتمر الإسلامي، أكمل الدين إحسان أوغلو، قال فيه: "إن تأجيل التصويت على تقرير غولدستون تم باتفاق ضمني بين الوفد الفلسطيني والدول الكبرى.. ومنظمة المؤتمر الإسلامي احترمت الاتفاق، فعندما تكون الدولة المعنية لها موقف باتجاه معين لا يمكن أن نتخذ موقفاً معارضاً".
وكانت خاتمة مطاف تقرير لجنة غولدستون رضوخ رئيس اللجنة للضغوط الأميركية والإسرائيلية في مقالة له في "واشنطن بوست"، بعنوان "إعادة التفكير في تقرير غولدستون عن إسرائيل وجرائم الحرب"، في نهاية مايو/أيار 2011، أعلن فيها ردَّته عن التقرير الذي لخص نتائج تحقيقات اللجنة الدولية الخاصة بالتحقيق في جرائم حرب جيش الاحتلال الإسرائيلي في الحرب على قطاع غزة 2008-2009.
ولا شك أن تجربة الفلسطينيين مع لجان التحقيق الدولية غير مشجعة على الاعتقاد بأن لجنة كوميرت سينجم عنها ما فشلت في تحقيقه اللجان السابقة، والأمثلة كثيرة على الفشل المزمن للأمم المتحدة في محاسبة إسرائيل بناء على تقارير لجان التحقيق الخاصة، منها، منذ 1997 أن بعثة المراقبين الدوليين في مدينة الخليل رفعت مئات التقارير حول الانتهاكات الإسرائيلية اليومية إلى الجهات المختصة في الأمم المتحدة، غير أن البعثة لم تنجح، حتى الآن، في انتزاع قرار واحد لصالح الفلسطينيين.
وفي رد فعلها على التقرير الذي أصدرته الأمم المتحدة في أغسطس/آب 2002 حول مجزرة مخيم جنين، فضحت منظمة "هيومن ووتش رايتس"، أساليب عمل منظمة العفو الدولية، وتلاعب وضعف هيئة الأمم المتحدة في تعاملها مع الجرائم الإسرائيلية إسرائيل، واعتبرت أن التقرير "محرف كلياً"، و"ليس بإمكان الأمم المتحدة أن تفخر به..".
وعلى الرغم من هول مجزرة الشاطئ، في غزة يونيو/حزيران 2006، التي أبيدت فيها عائلة هدى غالية، ومحرقة الأطفال في قطاع غزة في فبراير/شباط 2008 التي سقط ضحيتها أكثر من ألف مدني، لم تخرج الأمم المتحدة عن تقليد تجاهلها الجرائم الإسرائيلية، ووضعت جانباً التقرير الذي قدمه مبعوث الأمم المتحدة المستقل لحقوق الإنسان، ديزموند توتو، كبير الأساقفة في جنوب أفريقيا، ووصف فيه القصف العشوائي الإسرائيلي بجريمة حرب، استهدفت المدنيين العزّل.
تجارب محبطة تحيط بعمل لجنة كوميرت، ويعزز واقع الحال الفلسطيني والعربي والدولي، الأكثر سوءاً من قبل، من عوامل الإحباط، بينما مازالت إسرائيل، مدعومة بمواقف الولايات المتحدة ودول غربية، تستطيع ممارسة لعبة إفلات مجرمي حربها من العقاب. لكن، إلى متى ستستمر في هذه اللعبة؟ الإجابة برسم القيادة الفلسطينية أولاً، ولن تكون في الاتجاه الصحيح، إلا بالإقلاع عن الرضوخ للتهديدات الأميركية والإسرائيلية، والانضمام للمحكمة الجنائية الدولية، خطوة عملية أولى ومستحقة.