03 اغسطس 2022
لبنان مقاوماً.. بعد ليلة 16 سبتمبر 1982
ليست ليلة 16 سبتمبر/ أيلول من عام 1982 كغيرها من الليالي في تاريخ الفلسطينيين واللبنانيين وذاكرتهم. إنها، على الأرجح، الأكثر مأساويةً، ولا يرغبوا بالتأكيد في استرجاعها أو تذكّرها، على الرغم من مرور أربع وثلاثين سنة عليها، غير أنه من غير الممكن محوها من الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني. في تلك الليلة، وتحت جنح الظلام، وفيما بيروت ترزح تحت وطأة مجنزرات الجيش الاسرائيلي الغازي، وقف وزير الحرب في حينه، إريئيل شارون، على سطح أحد المباني، يشرف على أبشع مجزرة أرتكبت بدم بارد ضد فلسطينيين ولبنانيين مدنيين عزّل، في مخيمي صبرا وشاتيلا، جنوب العاصمة بيروت، على أيدي مليشيات كتائبية ويمينية لبنانية.
هل أرادها شارون نموذجاً لعقاب جماعي "تطهري"، تجسيداً لمقولة رئيسة حكومة إسرائيل السابقة، غولدا مائير، عن "أرضٍ بلا شعب"، أم أنها "نشوة نصر"، ومسك ختام لعملية غزو واجتياح لا سابقة له لعاصمةٍ عربية، احتضنت شعباً، وحملت لواء قضيته الوطنية والإنسانية؟ أم على الأرجح كلا الاثنين معا؟ جاء الجواب سريعاً وحاسماً في الليلة نفسها التي ارتكبت فيها المجزرة. فعلى بعد مئات الأمتار من مسرح المجزرة، ومن منزل أحد أهم الشخصيات الاستثنائية في تاريخ لبنان الحديث، كمال جنبلاط، المناصر للقضية الفلسطينية ولكفاح شعبها المسلح من أجل استعادة الأرض والوطن، أطلق رفيقا دربه القياديان اليساريان، الأمين العام للحزب الشيوعي، جورج حاوي، والأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي، محسن إبراهيم، نداءهما التاريخي في بيانٍ دعوا فيه إلى المقاومة المسلحة لطرد الجيش الإسرائيلي الذي اجتاح لبنان في 6 يونيو/ حزيران من ذلك العام، وصولا إلى بيروت التي أخضعت لحصار بري وبحري وجوي دام نحو ثلاثة أشهر. انطلقت العمليات على الفور على مواقع الجيش الإسرائيلي، وفي أقل من أسبوعين، أجبرت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية إسرائيل على الانسحاب من العاصمة باتجاه جنوب لبنان لتتمركز في صيدا، ثم تضطر بعد ثلاث سنوات إلى التراجع (1985) نحو الشريط الحدودي، بفعل ضغط العمليات العسكرية، قبل أن تنسحب نهائيا من لبنان عام 2000.
وكان الشيوعيون قد بدأوا بممارسة العمل المقاوم، عندما شكل الحزب الشيوعي مجموعات "جيش الأنصار" عام 1968، للتصدّي للاعتداءات الإسرائيلية على القرى اللبنانية الحدودية، وخاض مواجهاتٍ مع الجيش الإسرائيلي كان أولها عام 1972 وسقط له أول شهيد، قبل أن يتحول الجنوب إلى قاعدة فعلية للعمل الفدائي الفلسطيني المسلح.
لم يرُق نجاح الشيوعيين في إطلاق المقاومة كثيراً للنظام السوري الذي سعى، منذ البداية، إلى ضبط حركة المقاومين وعملياتهم في الجنوب، وإخضاعها لموافقته المسبقة، وبالأخص بعد أن عاد جيشه إلى بيروت عام 1987، بحجة وضع حد للاشتباكات التي اندلعت يومها بين الشيوعيين والاشتراكيين من جهة وحركة أمل من جهة أخرى، في الوقت الذي كان حزب الله قد بدأ يتمدّد في بيروت وضاحيتها. وبعد سنتين، توصلت الأطراف المتصارعة في السعودية إلى "اتفاق الطائف" (1989) الذي وضع حدا للاقتتال الداخلي، وأعاد تنظيم السلطة وتوزيعها في لبنان، وقضى بضرورة أن تسلم جميع المليشيات سلاحها إلى الدولة وأجهزتها الشرعية، غير أنه أقرّ بحق لبنان في المقاومة لتحرير الأرض من الاحتلال، وفي الوقت عينه، بضرورة انسحاب جيش حافط الأسد من لبنان، بعد سنتين من مصادقة مجلس النواب على "اتفاق الطائف" ودخوله حيز التنفيذ، إلا أن النظام السوري لم يلتزم، بطبيعة الحال، ببند سحب جيشه، فيما أخذ الحصار يشتد على المقاومين الشيوعيين عبر الحاكم العسكري السوري الذي كان يدير السياسة اللبنانية من مقر إقامته في البقاع اللبناني، بمنع وصول السلاح والذخيرة إليهم أو عرقلته. فيما راح حزب الله الناشئ حديثاً، والطالع جزئياً من أحشاء حركة أمل وتحت غطائها، يتغلغل في القرى الجنوبية، ويعترض طريق المجموعات الشيوعية الذاهبة إلى تنفيذ عملياتها ضد الإسرائيليين، لينتقل إلى ممارسة التصفية الجسدية لعدد من الكوادر المقاومة. كان المطلوب منع الشيوعيين من الاستمرار وتحويل المقاومة من وطنية لبنانية صرفة إلى "مقاومة إسلامية" ينفرد بها حزب الله، كي يتسنى ضبط العمليات على الإيقاع السوري، وبالسقف الإيراني.
أخرج الشيوعيون من المقاومة، وراح الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، يعلن مراراً، في خطاباته، التزامه بسياسة قيادة الملالي في إيران، وبما تقرّره: "أفتخر أن أكون جنديا في ولاية الفقيه". وأصبح حزب الله مقاومة غبّ الطلب، جاهزاً للتدخل على مساحة المحيط العربي، من سورية إلى العراق، إلى فلسطين إلى مصر وإلى اليمن... وها هو يقاتل، منذ ثلاث سنوات، إلى جانب بشار الأسد ضد الشعب السوري تلبيةً لطلب "الولي الفقيه".
وبعد مضي ثلاث وعشرين سنة على تلك المقاومة ضد الغزو الإسرائيلي، صدّع زلزال كبير النظام الأمني الذي كان النظام السوري قد أرسى دعائمه في لبنان، وأحكم قبضة أجهزته الأمنية على مفاصل السلطة فيه، فقد أدى اغتيال رئيس الحكومة الأسبق، رفيق الحريري، صباح 14 فبراير/ شباط 2005 إلى ثورة شعبية عارمة (14 آذار) أجبرت الأسد على سحب جيشه بعد نحو ثلاثين سنة من وصاية النظام الأسدي عليه، لكن حزب الله المقاوم تقدّم إلى الواجهة لـ "ملء الفراغ"، ولعب دور الوصي والمعطل للحياة السياسية. وبعد أكثر من ثلاثة أشهر، كرّت سبحة الاغتيالات، التي طاولت الصحافي والكاتب اليساري المميز، سمير قصير، ثم تبعه اغتيال المقاوم جورج حاوي الذي كان السباق في الدعوة إلى طي صفحة الحرب، وإلى المصالحة الوطنية، وإلى الحوار مع من تقاتل على مدى أكثر من عقد. واستمر مسلسل الاغتيالات حاصداً عددا آخر من النواب والسياسيين والصحافيين. أما المقاوم الآخر محسن إبراهيم، والذي بقي على علاقة وثيقة بالزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات، حتى آخر لحظة، فقد انكفأ وابتعد عن العمل السياسي اليومي... وما زال شاهداً على العصر.
هل أرادها شارون نموذجاً لعقاب جماعي "تطهري"، تجسيداً لمقولة رئيسة حكومة إسرائيل السابقة، غولدا مائير، عن "أرضٍ بلا شعب"، أم أنها "نشوة نصر"، ومسك ختام لعملية غزو واجتياح لا سابقة له لعاصمةٍ عربية، احتضنت شعباً، وحملت لواء قضيته الوطنية والإنسانية؟ أم على الأرجح كلا الاثنين معا؟ جاء الجواب سريعاً وحاسماً في الليلة نفسها التي ارتكبت فيها المجزرة. فعلى بعد مئات الأمتار من مسرح المجزرة، ومن منزل أحد أهم الشخصيات الاستثنائية في تاريخ لبنان الحديث، كمال جنبلاط، المناصر للقضية الفلسطينية ولكفاح شعبها المسلح من أجل استعادة الأرض والوطن، أطلق رفيقا دربه القياديان اليساريان، الأمين العام للحزب الشيوعي، جورج حاوي، والأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي، محسن إبراهيم، نداءهما التاريخي في بيانٍ دعوا فيه إلى المقاومة المسلحة لطرد الجيش الإسرائيلي الذي اجتاح لبنان في 6 يونيو/ حزيران من ذلك العام، وصولا إلى بيروت التي أخضعت لحصار بري وبحري وجوي دام نحو ثلاثة أشهر. انطلقت العمليات على الفور على مواقع الجيش الإسرائيلي، وفي أقل من أسبوعين، أجبرت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية إسرائيل على الانسحاب من العاصمة باتجاه جنوب لبنان لتتمركز في صيدا، ثم تضطر بعد ثلاث سنوات إلى التراجع (1985) نحو الشريط الحدودي، بفعل ضغط العمليات العسكرية، قبل أن تنسحب نهائيا من لبنان عام 2000.
وكان الشيوعيون قد بدأوا بممارسة العمل المقاوم، عندما شكل الحزب الشيوعي مجموعات "جيش الأنصار" عام 1968، للتصدّي للاعتداءات الإسرائيلية على القرى اللبنانية الحدودية، وخاض مواجهاتٍ مع الجيش الإسرائيلي كان أولها عام 1972 وسقط له أول شهيد، قبل أن يتحول الجنوب إلى قاعدة فعلية للعمل الفدائي الفلسطيني المسلح.
لم يرُق نجاح الشيوعيين في إطلاق المقاومة كثيراً للنظام السوري الذي سعى، منذ البداية، إلى ضبط حركة المقاومين وعملياتهم في الجنوب، وإخضاعها لموافقته المسبقة، وبالأخص بعد أن عاد جيشه إلى بيروت عام 1987، بحجة وضع حد للاشتباكات التي اندلعت يومها بين الشيوعيين والاشتراكيين من جهة وحركة أمل من جهة أخرى، في الوقت الذي كان حزب الله قد بدأ يتمدّد في بيروت وضاحيتها. وبعد سنتين، توصلت الأطراف المتصارعة في السعودية إلى "اتفاق الطائف" (1989) الذي وضع حدا للاقتتال الداخلي، وأعاد تنظيم السلطة وتوزيعها في لبنان، وقضى بضرورة أن تسلم جميع المليشيات سلاحها إلى الدولة وأجهزتها الشرعية، غير أنه أقرّ بحق لبنان في المقاومة لتحرير الأرض من الاحتلال، وفي الوقت عينه، بضرورة انسحاب جيش حافط الأسد من لبنان، بعد سنتين من مصادقة مجلس النواب على "اتفاق الطائف" ودخوله حيز التنفيذ، إلا أن النظام السوري لم يلتزم، بطبيعة الحال، ببند سحب جيشه، فيما أخذ الحصار يشتد على المقاومين الشيوعيين عبر الحاكم العسكري السوري الذي كان يدير السياسة اللبنانية من مقر إقامته في البقاع اللبناني، بمنع وصول السلاح والذخيرة إليهم أو عرقلته. فيما راح حزب الله الناشئ حديثاً، والطالع جزئياً من أحشاء حركة أمل وتحت غطائها، يتغلغل في القرى الجنوبية، ويعترض طريق المجموعات الشيوعية الذاهبة إلى تنفيذ عملياتها ضد الإسرائيليين، لينتقل إلى ممارسة التصفية الجسدية لعدد من الكوادر المقاومة. كان المطلوب منع الشيوعيين من الاستمرار وتحويل المقاومة من وطنية لبنانية صرفة إلى "مقاومة إسلامية" ينفرد بها حزب الله، كي يتسنى ضبط العمليات على الإيقاع السوري، وبالسقف الإيراني.
أخرج الشيوعيون من المقاومة، وراح الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، يعلن مراراً، في خطاباته، التزامه بسياسة قيادة الملالي في إيران، وبما تقرّره: "أفتخر أن أكون جنديا في ولاية الفقيه". وأصبح حزب الله مقاومة غبّ الطلب، جاهزاً للتدخل على مساحة المحيط العربي، من سورية إلى العراق، إلى فلسطين إلى مصر وإلى اليمن... وها هو يقاتل، منذ ثلاث سنوات، إلى جانب بشار الأسد ضد الشعب السوري تلبيةً لطلب "الولي الفقيه".
وبعد مضي ثلاث وعشرين سنة على تلك المقاومة ضد الغزو الإسرائيلي، صدّع زلزال كبير النظام الأمني الذي كان النظام السوري قد أرسى دعائمه في لبنان، وأحكم قبضة أجهزته الأمنية على مفاصل السلطة فيه، فقد أدى اغتيال رئيس الحكومة الأسبق، رفيق الحريري، صباح 14 فبراير/ شباط 2005 إلى ثورة شعبية عارمة (14 آذار) أجبرت الأسد على سحب جيشه بعد نحو ثلاثين سنة من وصاية النظام الأسدي عليه، لكن حزب الله المقاوم تقدّم إلى الواجهة لـ "ملء الفراغ"، ولعب دور الوصي والمعطل للحياة السياسية. وبعد أكثر من ثلاثة أشهر، كرّت سبحة الاغتيالات، التي طاولت الصحافي والكاتب اليساري المميز، سمير قصير، ثم تبعه اغتيال المقاوم جورج حاوي الذي كان السباق في الدعوة إلى طي صفحة الحرب، وإلى المصالحة الوطنية، وإلى الحوار مع من تقاتل على مدى أكثر من عقد. واستمر مسلسل الاغتيالات حاصداً عددا آخر من النواب والسياسيين والصحافيين. أما المقاوم الآخر محسن إبراهيم، والذي بقي على علاقة وثيقة بالزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات، حتى آخر لحظة، فقد انكفأ وابتعد عن العمل السياسي اليومي... وما زال شاهداً على العصر.