14 نوفمبر 2024
لبنان.. ضيّعني حبكَ ضيّعني
نال ابني هجرة ميمونة إلى كندا، هو وزوجته وأولاده، فتحقّق لمّ الشمل، وصار مطروحا عليّ أن ألتحق بعائلتي الصغيرة، أي أن أهاجر أنا أيضاً، وأصبح بعد وقت قصير مواطنة كندية، أتمتع بحقوقٍ غير متخيّلة، نظرا لعمري؛ والكنديون يقدّسون الأعمار، ويمنحون أصحابها مميزات "السنيور"، المساوية لمميزات الأطفال دون العاشرة من العمر. أميل إلى الفكرة في بداية وصولي إلى كندا، ولكن بكثير من الخفَر؛ ميل ينقصه الحزم. ربما لأنني تركتُ لبنان وقد أصابني تعبٌ عارم من صنوف أوجاعه ومتاهاته. ولن أرويها هنا، لكثرتها، ولتكرارها، وللضجر الذي باتت تثيره. ولِما أصبحت عليه لغته، الأقرب إلى نقّ عجائز الروح. وهي، على كل حال، أوجاعٌ جعلتني أقل مقاومةً لفكرة الهجرة النهائية التي يقترحها عليّ أولادي. أقول لهم إنني ربما أقبل بتقسيم الإقامة: ستة أشهر هنا وستة أخرى في لبنان. مثل تسويةٍ بين بائع ومشترٍ. هذا في البداية. أما في أواسط الرحلة، فقد بدأت عوارض الحنين إلى بيروت. ألمٌ في البطن، ودوارٌ خفيف، وجفافٌ في الحلق. أصفه بالحنين الأبله. لا أود الاسترسال به، لأنه غير "عقلاني". أنشدّ إليه، إلى لذّة حزنه، ولكنني أقاومه في الآن عينه. أحاول أن "أحلله"، أن "أفكّكه"، أو أتفّهه؛ كما فعلتُ في المرات السابقة.
ولكن هذه المرة، يحتاج الموقف إلى حسم، لأن عائلتي الصغيرة باتت كلها هناك. عليّ التريث إذاً، قبل أن أقرر. عليّ أن أفهم ذاك الشعور، تلك الوخزة في القلب التي تصيبني في كل لحظةٍ من لحظات وجودي في كندا، فأجول في شوارع تورنتو، أقارن بلا هوادة: البيوت الجميلة الحميمة، الأشجار، الحدائق، الزهور، الألوان، الطرقات، السماء الشاسعة، البحيرة، القانون، اللطف البالغ، وراحة البال، والكلاب المحتضَنة، الغرام بين المسنّين، الرجال الآباء، منافسي الأمهات، حرية أن يكون المرء ما يحب أن يكون، من دون تلك النظرة غير المرئية التي تردعه من أن يكونه... وجملة من المبْهجات، المغرية بداهةً لأي قادم من حُطام الشرق الأوسط. بل قرأتُ، وأنا هناك، عن تظاهرة لفلسطينيي لبنان نحو السفارة الكندية، تطالبها بتوفير الهجرة إليهم، وتصف الظروف المأساوية التي تفرضها أنظمة لبنان اللانظامية واللاقانونية على تفاصيل حياتهم...
ومع هذا كله، لا تغريني الهجرة النهائية. أستمهل نفسي. وأعود، ربما للمرة الألف، أطرح على
نفسي السؤال: ما الذي يبقيكِ في لبنان؟ بعيدة عن عائلتك الصغيرة التي أصبحت الآن تعيش في النقطة المقابلة من الكوكب؟ وهذه المرّة، السؤال ملح، كما أسلفتُ، فأتمهّل، وأعطي الوقت وقتاً للجواب. وأقول لنفسي إنني هذه المرة سوف أفكر بالموضوع ملياً، وجدّياً. أريد أن أعرف ما هي تلك الممانعة؟ ما أصلها؟ ما نوعيتها؟
في طائرة العودة إلى بيروت، أجلس بالقرب من طالبة عشرينية، كندية الجنسية، لبنانية الأصل، قادمة إلى بيروت لمناسبةٍ عائلية. بعد التعارف السريع، تسألني عن ديانتي، وعن مذهبي. ولا تصدّق بأنني مزيج منهما: "لا.. عليكِ أن تحدّدي.. من أي ديانة أنت؟ من أي مذهب؟!". فتنطلق بخطابٍ محفوظٍ عن الطوائف وضرورتها، من أنها لا يمكن أن تصدّق هذا المزيج. وبأن لكل إنسان طائفته، يحبها ويحب أبناءها ولا يعاشر غيرهم... إلخ. أنتِ طالبة في أرقى الجامعات؟ وكندية؟ و"عصرية" على ما يبدو من هندامك؟
أنسى هذا كله في لحظة هبوط الطائرة في بيروت. أحاول أن أنسى الطالبة الطائفية. أو ربما أضعها على لائحة المقارنات التي أنوي القيام بها، فيكون مشهد العاصمة من فوق ثاني الاختبارات. يا للهول! تبدو بيروت من السماء مثل خرابة شاسعة تعرّضت لزلزال؛ وأنا أسكن فيها... هكذا، أفتح باب تسجيل المقارنات، منذ لحظة خروجي من الطائرة، وطليعة الشرْشَحة: الرائحة الكريهة، الرثاثة، التهالك، الفوضى، الوجوه الباحثة عن رزقةٍ ما، الإرشادات والاتجاهات الخاطئة... أقارن. وفي الطريق إلى البيت: المباني المهلْهلة، السيارات الطاحشة ومعها أو ضدها الدراجات النارية، القافزة فوق الجميع، وفي الاتجاهات المسموحة والممنوعة، بالضوء الأخضر أو الأحمر... أقارن. فأصل إلى البيت، والكهرباء مقطوعة، والطوابق الستة
التي عليّ تكبّدها، محمّلة بشنط عابرة للبحار... ثم البشر بعد الحجر: ذاك الضجر الذي يسكن في كل ما يُعتبر "حدثا" سياسيا داخليا. ذاك اليأس العميم من أية إمكانية، مهما تواضعت. تلك "السجالات" التي تدور حول نفسها، كأنها آلات تسجيلٍ أُعيد تشغيلها من الأول. والضجر الاجتماعي. من تلك العلاقات التي ماتت، أو تبخّرت، أو تحوّلت؛ أقارب كانوا أم أصدقاء. تلك الصحراء العاطفية التي استوطنت أرضاً قاحلة، بخيلة، لئيمة. عكس ما هي عليه في تصوّرات البعيدين عنها، إذ يقول لكَ المغترب إن جلّ ما يشتاق إليه هو "الناس" في بلاده الأصلية... لن أطيل المقارنة. ربما لستُ تماما على حق. وقد تكون المقارنة مدمِّرةً لأصحاب الذاكرة "الحية". مع أنني أود أن أسألهم إن كانوا ليسوا مثقلين بعذابات ذاكرتهم، وهم يسكنون مكان هذه الذاكرة بالذات؟
كل هذه المقارنات الصارمة لا تفيدني في فهم دواخلي. ربما بالغتُ في "عقْلنة" خياري. ربما عليّ أن أهجر عقلي قليلا. ربما أجد في قلبي جواباً: ما هذا الذي يعاند نفوري من بلادي؟ ما هذا الذي يدفعني إلى الامتناع عن الهجرة النهائية؟ أغوص إذاً في قلبي؛ فيصيبني وخزٌ، لا أعرف له اسما في البداية. الحب؟ الشغف؟ الجاذبية؟ لا، لا يمكن أن يكون موضوع تعلُّقي بهذه القباحة. أنا المحبّة للجمال، والباحثة عنه في أية زاوية ممكنة. ما هو إذاً؟ انظري إلى الجبل مثلا. أو إلى البحر. أو إلى الناس. أتعمق بقلبي المجذوب، وأحاول ألا أستحي. أن يكون ما يكونه، وبعد ذلك جواب. وكلما تعمقتُ، أوغل قلبي في الفَقْد والتخلي، وبدأ يطفو على سطحه شعورٌ لم آلفه، لم آنس به يوما. إنه الشفقة. أشفق على لبنان، كمن يشفق على طفل متروك لمصيره. وهذه شفقة من صميم أمومتي. هي التي تحول الهجرة النهائية عندي إلى مشقّة. الشفقة تبقيني هنا، وكأن وجودي وحده يحمي هذا الطفل الضائع، لبنان، من مزيد من الضياع. وليس هذا كله من العقل بشيء. غير مبرّر على الإطلاق. لكنه أقوى من العقل. وطغيانه يوجب الهروب منه. ولكن إلى أين؟ أهرب من قلبي نحو عقلي؟ بعدما هربت من عقلي نحو قلبي؟
ومع هذا كله، لا تغريني الهجرة النهائية. أستمهل نفسي. وأعود، ربما للمرة الألف، أطرح على
في طائرة العودة إلى بيروت، أجلس بالقرب من طالبة عشرينية، كندية الجنسية، لبنانية الأصل، قادمة إلى بيروت لمناسبةٍ عائلية. بعد التعارف السريع، تسألني عن ديانتي، وعن مذهبي. ولا تصدّق بأنني مزيج منهما: "لا.. عليكِ أن تحدّدي.. من أي ديانة أنت؟ من أي مذهب؟!". فتنطلق بخطابٍ محفوظٍ عن الطوائف وضرورتها، من أنها لا يمكن أن تصدّق هذا المزيج. وبأن لكل إنسان طائفته، يحبها ويحب أبناءها ولا يعاشر غيرهم... إلخ. أنتِ طالبة في أرقى الجامعات؟ وكندية؟ و"عصرية" على ما يبدو من هندامك؟
أنسى هذا كله في لحظة هبوط الطائرة في بيروت. أحاول أن أنسى الطالبة الطائفية. أو ربما أضعها على لائحة المقارنات التي أنوي القيام بها، فيكون مشهد العاصمة من فوق ثاني الاختبارات. يا للهول! تبدو بيروت من السماء مثل خرابة شاسعة تعرّضت لزلزال؛ وأنا أسكن فيها... هكذا، أفتح باب تسجيل المقارنات، منذ لحظة خروجي من الطائرة، وطليعة الشرْشَحة: الرائحة الكريهة، الرثاثة، التهالك، الفوضى، الوجوه الباحثة عن رزقةٍ ما، الإرشادات والاتجاهات الخاطئة... أقارن. وفي الطريق إلى البيت: المباني المهلْهلة، السيارات الطاحشة ومعها أو ضدها الدراجات النارية، القافزة فوق الجميع، وفي الاتجاهات المسموحة والممنوعة، بالضوء الأخضر أو الأحمر... أقارن. فأصل إلى البيت، والكهرباء مقطوعة، والطوابق الستة
كل هذه المقارنات الصارمة لا تفيدني في فهم دواخلي. ربما بالغتُ في "عقْلنة" خياري. ربما عليّ أن أهجر عقلي قليلا. ربما أجد في قلبي جواباً: ما هذا الذي يعاند نفوري من بلادي؟ ما هذا الذي يدفعني إلى الامتناع عن الهجرة النهائية؟ أغوص إذاً في قلبي؛ فيصيبني وخزٌ، لا أعرف له اسما في البداية. الحب؟ الشغف؟ الجاذبية؟ لا، لا يمكن أن يكون موضوع تعلُّقي بهذه القباحة. أنا المحبّة للجمال، والباحثة عنه في أية زاوية ممكنة. ما هو إذاً؟ انظري إلى الجبل مثلا. أو إلى البحر. أو إلى الناس. أتعمق بقلبي المجذوب، وأحاول ألا أستحي. أن يكون ما يكونه، وبعد ذلك جواب. وكلما تعمقتُ، أوغل قلبي في الفَقْد والتخلي، وبدأ يطفو على سطحه شعورٌ لم آلفه، لم آنس به يوما. إنه الشفقة. أشفق على لبنان، كمن يشفق على طفل متروك لمصيره. وهذه شفقة من صميم أمومتي. هي التي تحول الهجرة النهائية عندي إلى مشقّة. الشفقة تبقيني هنا، وكأن وجودي وحده يحمي هذا الطفل الضائع، لبنان، من مزيد من الضياع. وليس هذا كله من العقل بشيء. غير مبرّر على الإطلاق. لكنه أقوى من العقل. وطغيانه يوجب الهروب منه. ولكن إلى أين؟ أهرب من قلبي نحو عقلي؟ بعدما هربت من عقلي نحو قلبي؟