لبنان.. دعوات التسلح وجنون رهان على الأمن الذاتي

02 سبتمبر 2014

خيمة للاجئين سوريين على أطراف عرسال (9 أغسطس/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -


دارت معارك، أخيراً، في بلدة عرسال وجرودها على الحدود مع سورية، بين الجيش اللبناني ومسلحين سوريين تابعين، بالدرجة الأولى، كما روّج الإعلام، لـ"جبهة النصرة" و"تنظيم داعش"، وأدت إلى وقوع ضحايا مدنيين وعسكريين، ووقوع أسرى من الجيش بيد المسلحين، ناهيك عن تدمير مخيمات كانت تأوي لاجئين سوريين كثيرين. ووضعت قوى سياسية لبنانية هذه المعارك في إطار محاولات جر الجيش إلى مواجهات مفتوحة مع المسلحين السوريين، جزءاً من إستراتيجية تهدف إلى إشراك الجيش اللبناني في قتالهم في المنطقة المحاذية للقلمون السورية، خصوصاً بعد استنزاف قوات النظام السوري وحلفائه في هذه المنطقة، وهو، بالطبع، ما كان يمكن أن يدخل الجيش في حرب استنزاف طويلة، لا يملك قدرة على تحمّلها، وهو ما أشار إليه قائد الجيش، العماد جان قهوجي، في تصريحات لصحيفة النهار (السبت 24/8/2014)، حيث رفض أن يدمر الجيش بلدة عرسال في أثناء تصديه للمسلحين، وبذلك، فشلت محاولات جر الجيش إلى حرب الاستنزاف المطلوبة، وفشلت محاولات إيقاع الفتنة بين الجيش والحاضنة الرئيسية له في البلاد المتمثلة بالمكوّن السنّي تحديداً، بفضل وعي القيادة السياسية والعسكرية من ناحية، والقوى التي تمثل هذا المكوّن من جهة ثانية.

لم تقف المحاولات عند هذا الحد، بل تخطته إلى محاولات أخرى، ارتسمت حولها الكثير من علامات استفهام كثيرة، منها، على سبيل المثال لا الحصر، ذبح الجندي في الجيش اللبناني علي السيّد (من إحدى بلدات عكار السنّية) على أيدي مسلحين، زعموا أنهم ينتمون إلى "داعش"، في حادثةٍ اكتنفها غموض وضبابية كثيران، على الرغم من أن أهالي الضحية أكدوا أن ابنهم ذبح فعلاً، لكن الغموض هو في حقيقة ما جرى معه. فالجندي كان قد اختفى منذ أسابيع قبل أحداث عرسال، وبث شريط فيديو على موقع تابع لما كان يعرف بـ "لواء أحرار السنّة – بعلبك" يظهره يعلن انشقاقه عن الجيش اللبناني، وانضمامه إلى "جبهة النصرة". ولاحقاً، تم كشف مشغل هذا الحساب، وتبيّن أنه لا يمت إلى "جبهة النصرة" بصلة. ثم تبيّن، بعد ذلك، أن الجندي ذبحه، وفقاً لشريط فيديو آخر، تنظيم داعش، فما الذي أوصله إلى التنظيم المذكور، وهو الذي انضم إلى "النصرة" قبل أسابيع، ثم لماذا تذبحه "داعش"، وهو الذي انشق عن الجيش وفقاً للشريط الأول. وقد بيّنت التحريات التي جرت بشأن مصدر نشر شريط الفيديو الثاني الذي أظهر ذبح الجندي أنه مكان يستحيل على "داعش" أو "النصرة" الوجود فيه، وذلك وفقاً لمصادر أمنية مواكبة. وإذا كانت الأمور قد جرت بهذه الطريقة، فمن حق المواطن اللبناني أن يسأل لماذا يجري ما يجري؟ ولمصلحة من؟

وإذا أضفنا هذه المعطيات إلى معطياتٍ أفادت بأن ضابطاً كبيراً من ضباط القيادة العامة للنظام السوري قد وصل إلى محيط بلدة عرسال لمواكبة ما يجري. وإذا أضفنا ذلك إلى ما أعلنته "جبهة النصرة" عن اكتشاف سوريين يعملون في القلمون وفي منطقة عرسال ومحيطها مع النظام السوري وحلفائه، أدركنا حجم المخاطر التي تتهدد لبنان، والتي تحدث عنها مراراً رئيس الحكومة، تمام سلام، ووزير الداخلية، نهاد المشنوق، وقائد الجيش، جان قهوجي. وإذا ما أضفنا إلى ذلك كله تصاعد وتيرة الدعوة والحديث عن الأمن الذاتي والتسلح، ندرك أكثر ما يحضر للبنان في المرحلة المقبلة.

قبل أيام، بدأت قوى حزبية وسياسية تروّج، بشكل غير مباشر، اتباع سياسة الأمن الذاتي، وبعضها لجأ له بالفعل (حادثة إطلاق النار على سيارة "فان" لبنانية، كانت تقل ركاباً سوريين قرب بلدة عين عطا في قضاء راشيا). كما أطلق سياسيون دعوة صريحة إلى التسلح (السياسي جوزيف أبو فاضل المقرب من التيار العوني ومن النظام السوري في مقابلة تلفزيونية الأحد 25/8/2014)، خصوصاً في الوسط المسيحي، في محاولة لرفع منسوب الخوف والقلق عند المسيحيين، ضمن محاولات تدعيم تحالف "الأقليات"، أو في محاولة للفت الانتباه عن حقائق بعض الأمور في ملفاتٍ أخرى في البلد. وفي هذا السياق، جاء إحراق راية يرفعها "داعش" وتتضمن شعار التوحيد "لا إله إلا الله" في ساحة ساسين في الأشرفية ذات الأغلبية المسيحية، في محاولةٍ، أيضاً، لإثارة الفتنة الطائفية، وجزءاً من محاولات إرباك الواقع وتأليبه، وصولاً إلى حلفٍ يضم الذين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أقلية مضطهدة، وليسوا مواطنين لهم حقوق وواجبات، مع ضرورة تأكيد أن قوى مسيحية سياسية (القوات اللبنانية) رفضت منطقي الأمن الذاتي والتسلح، وأكدت على رهانها على الدولة ومؤسساتها.

يعيش لبنان، اليوم، تحت ضغط هذه الدعوات والإشاعات التي تربك كل المشهد اللبناني، ورهان بعضهم عليها قد يدخل لبنان في دوامة كبيرة من العنف، ويجعل منه مشهداً مشابهاً لما يجري في سورية والعراق، فضلاً عن أنه يدمر الدولة، ولا يؤمّن لأصحابه ما يرجونه من خلف هذه الدعوات.